ما توقعات المُشاهد من فيلم "باربي"؟
قبل الإجابة على هذا السؤال الصعب والمحاط بالتخمين، لنرى السياق الذي جاء به الفيلم، والذي يتلخص في وضعه وجهًا لوجه مع فيلم "أوبنهايمر"، وأنه يأتي في سياق الحرب الثقافية الأمريكية وكون هوليوود طرفًا في هذه الحرب، إضافة إلى الجوانب التسويقية والاستهلاكية للفيلم، وحداثة وقِصَر تجربة مخرجة الفيلم "غريتا غيرويغ" والتي لم تتبلور شخصيتها السينمائية حتى الآن.
بدايةً، وُضع فيلم "باربي" في تقابلٍ مع فيلم "أوبنهايمر" لسببين: الأول توقيت عرض الفيلمين المتزامن، والثاني التعارض الشديد بين الموضوعين والشخصيتين، فغلاف فيلم "أوبنهايمر" بصورة الانفجار الذري والممثل "كيليان مورفي"، يتناول من حيث اليقين قصة الدمار الشامل واختراع أخطر سلاح صنعته البشرية على الإطلاق، اليقين النابع من موضوع الفيلم والذي يتناول وقائع تاريخية، أمام فيلم "باربي" بصورة "مارغوت روبي" و"رايان غوسلينغ" على الغلاف -بملابسهم زاهية الألوان- والذي ينفتح على عالمٍ ورديٍ وحالمٍ وخياليٍ يتجسد بالدمية الأشهر عالميًا في القرن العشرين والمرتبطة بالطفولة السعيدة والمرفهة.
هنا نجد شخصية عالِم الفيزياء -الذي "أصبح الموت ومدمِّر العوالم"- روبرت أوبنهايمر، في مقابل الدمية الشقراء الجميلة الفاتنة باربي، عالَم القتل والفتك وذكرى الحرب العالمية الثانية واستخدام القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي، عالم الدمار الشامل الذي جسده البشر في القرن العشرين عبر حربهم الدموية الأبرز في التاريخ، مقابل العالم الوردي للأطفال، والفتيات تحديدًا، عالم البراءة الأولى، والحلم الأول، والنموذج الوردي للحياة المنعمة، الدمية الشقراء المثالية التي تطورت عبر عقود، تعيش في منزلها المثالي، وتقود سيارتها الجميلة.
السياق الثاني الذي يأتي فيه الفيلم، يرتبط بما اُصطلح عليه مؤخرًا بـ"الحرب الثقافية" في الولايات المتحدة الأمريكية، والمرتبطة بإعادة تعريف النوع الجنسي الإنساني، وهذا موضوع يطول تفصيله والحديث عنه ويصعب تلخيصه هنا، لكن يمكن تسجيل ملاحظتين حوله مرتبطتين بسياق الفيلم.
ترتبط الملاحظة الأولى بالانتقال من "الجندر" أو عالم الأدوار الاجتماعية، إلى "الجنس" والعالم الطبيعي "البيولوجي"، فبعد أن كان الحديث في بدايات ومنتصف القرن العشرين عن الأنوثة والذكورة في سياق اجتماعي، سياق الأدوار الاجتماعية (مثلاً: من يعمل داخل المنزل ومن يعمل خارجه؟) أصبح النقاش في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين يرتبط بالسياق الطبيعي "البيولوجي" فيعيد تعريف الذكورة والأنوثة ويرفض التصنيف الثنائي الطبيعي ويتحدث عن سيولة جنسية، عالم يستحيل فيه تعريف الذكورة والأنوثة وأدوارهما، فالجنس بالمعنى البيولوجي عملية اختيار في هذا العالم الجديد، فالمحددات البيولوجية لا معنى لها، فيمكن للإنسان أن يختار جنسه وأن يجري عمليات تتكلف ملايين الدولارات ويغير في طبيعة هرموناته وجسده ليختار الجنس الذي يريد أن يكونه، وهذا الجنس مفتوح بلا محددات، فيمكن له أن يكون ما يريد، فالهوية الجنسية هنا اختيارية ومتعالية على الطبيعة وليست امتدادًا لها!
أما الملاحظة الثانية التي أود تسجيلها في هذا السياق، وترتبط بفيلم "باربي" والحرب الثقافية في أمريكا، أن هذه الحرب إعلامية وأكاديمية وطبية وسياسية، فهي مرتبطة بالمؤسسات الإعلامية الكبرى وهوليوود، والمؤسسات الأكاديمية والجامعات ومدارس التعليم العام، والشركات الطبية الكبرى والمستشفيات، والمؤسسات السياسية ولاسيما الإدارة الأمريكية الديمقراطية حاليًا، وهذا يضع فيلم "باربي" -في سياق ملتبس- جزءًا من الحرب الثقافية الأمريكية الشرسة.
أما السياق الثالث الذي يأتي به الفيلم، والذي لن أفصل فيه، هو سياق الشركة المنتجة للعبة، فهو سياق استهلاكي يمجد الرأسمالية ويهدف إلى تعظيم الأرباح، وهو سياق تجاري ودعائي.
هذا المدخل يجعل التوقعات حول فيلم "باربي" متواضعة، ومع أن الفيلم من إخراج "غريتا غيرويغ" والتي أخرجت أفلام جيدة مثل "نساء صغيرات" (Little Women) و"السيدة بيرد" (Lady Bird) فإن قوة العلامة التجارية لباربي، وسياقها التاريخي، وكونه منتجًا هوليووديًا في خضم الحرب الثقافية الأمريكية، يجعلون توقع محتوى الفيلم بناءً على شخصية المخرجة صعبًا جدًا، خاصة أن تجربة "غيرويغ" السينمائية قصيرة ولم تنضج بعد.
وهنا نعود للسؤال الأول: ما توقعات المُشاهد من فيلم "باربي" في وسط كل هذه التعقيدات؟
إما أن يكون فيلمًا تجاريًا يحفل بالرومانسية وسياقاتها الاستهلاكية من خلال قصة حب أو ما شابه بين "باربي" و"كين"، أو منتجًا من منتجات الحرب الأمريكية الثقافية يمجد الشذوذ الجنسي وما يرتبط به من تغيير لمعاني الذكورة والأنوثة والأسرة والمجتمع، أو رؤية ثالثة تحاول الخروج من هذه السياقات ولكن لا يُعوَّل عليها كثيرًا لحداثة تجربة المخرجة السينمائية، إلا أن الفيلم يذهب في اتجاه مغاير، من خلال طرح رؤية مفاجئة في تقليديتها.
من المشهد الافتتاحي للفيلم، والذي جاء مقتبسًا من الافتتاحية الشهيرة لفيلم المخرج ستانلي كوبريك "2001: ملحمة الفضاء" (2001: A Space Odyssey) تبدأ توقعاتك تجاه الفيلم بالتغير، فقد شعرتُ عند مشاهدة عتبة الفيلم أنني أمام عمل فني مخالف للتوقعات. يبدأ الفيلم بحبكة مشدودة إلى ذاكرة ملايين الأطفال حول العالم، من خلال استعراض عالم باربي الوردي والحالم، وتجسيد الألعاب والإصدارات المختلفة التي أنتجتها شركة "ماتيل" للألعاب منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، مع لمسة تعددية تناسب السياق الثقافي العالمي اليوم، للخروج من وصمة باربي الشقراء، لتصبح باربي ممثلة لأعراق وأشكال مختلفة من النساء، التوجه الذي بدأته الشركة منذ سنوات وسعى الفيلم إلى ترسيخه.
بعد هذا المدخل تأتي لمحة من اللمحات الذكية في الفيلم: في وسط هذه الرؤية الحالمة والوردية للحياة، تفكر باربي فجأة بالموت، ولا شيء مثل فكرة الموت يمكن لها أن تغير حياة الإنسان؛ بعد أن تنتبه باربي لحقيقة الموت، يبدأ عالمها بالتداعي. يشحب عالمها وتفقد رونقها عندما تواجه حقيقة الحياة اليقينية، والمتمثَلة بنهايتها الحتمية والفناء، إلا أن تناول فكرة الموت في الفيلم لا يتجاوز هذه اللمحة، ليكون الموت هو الجسر ما بين عالم باربي الوردي والحالم، والعالم الحقيقي الشاحب والبائس للبشر، ومن هنا تبدأ أحداث الفيلم بالتصاعد، عندما تخرج باربي من عالم أحلامها الوردية، وتدخل إلى عالم البشر المربك والقاسي. من خلال التداخل بين العالمين يقدم الفيلم رؤية للمجتمع الأمريكي، فيطرح -بشكل مباشر- أفكارًا نسويةً تقليدية مرتبطةً بالمجتمع الأبوي، والمجتمع الذكوري، والتمايز الطبقي، والأدوار الاجتماعية، أفكارًا تقليدية تَراجع تناولها مؤخرًا تحت وطأة الحرب الثقافية الأمريكية وأسئلة الجنس والهوية الجنسية.
بعد أن تخرج باربي وكين إلى العالم الحقيقي، تستوعب باربي فورًا بؤس هذا العالم، أما كين فيتأثر به ويمجده، وهنا تذهب الشخصيتان في سياقين متناقضين، ففي حين تحاول باربي إصلاح العالم الحقيقي، ينقل كين تطبيقات الأفكار الذكورية والأبوية إلى عالم باربي ليفسده، وفي تقاطعات العالمين تكمن حبكة الفيلم. تفشل باربي في إصلاح العالم الحقيقي وتختار الهروب، فبؤس العالم قَدَرٌ لا مفر منه، لكن نضالها لاحقًا يتلخص في محاولات إصلاح عالمها الوردي وتطهيره من هيمنة كين وأفكاره الذكورية والنظام الأبوي الذي يريد إقامته. هذه الصراعات تأتي بقالب درامي وكوميدي مباشر، فلا تُعالَج هذه الأفكار والجوانب الثقافية والاجتماعية المرتبطة بها بصورة عميقة أو مختلفة، ولكن تقدَّم عبر الفلسفات النسوية التقليدية أكثر من تطوراتها الأخيرة التي تتجاوز النسوية وتُتنقد من النسويات.
في سياق متصل، لم يخرج الفيلم عن الإطار الرأسمالي والاستهلاكي المرتبط به، فالفيلم دعائي بصورة فجة لشركة ماتيل للألعاب المنتجة للدمية باربي، ومليء بإعلانات العلامات التجارية الفارهة، فهو -وإن حاول تقديم نقد اجتماعي- قد فشل في معالجة الجوانب المرتبطة بالسياقات الاستهلاكية والرأسمالية للمجتمع، وهذا الفشل متوقَع، فالفيلم في نهاية المطاف منتج من منتجات هذا المجتمع.
للعودة إلى السؤال الذي أحاول الإجابة عنه هنا: الفيلم يخالف التوقعات، ويخالف سياقاته، وإن لم يذهب بعيدًا عنها، وهو عمل يستحق المشاهدة، وإن لم يكن من الأفلام المبهرة، إلا أنه يطرح أسئلة مفصلية تراجعت تحت وطأة أسئلة جديدة برزت بسبب قوة متبنييها الإعلامية لا لأنها أسئلة مهمة للمجتمع. يقدم الفيلم رؤية مختلفة ومكمن اختلافها أنها تقليدية في وقت لم تعد الرؤية النسوية التقليدية مُحتفى بها في هوليوود ووسط الحرب الثقافية الأمريكية، فباربي وكين يجسدان الصراعات الإنسانية الثنائية القديمة، الذكر في مقابل الأنثى، الثقافة النسوية في مقابل الثقافة الذكورية، والمجتمع الأبوي في سياق النضال ضده، بعيدًا عن الموضوعات التي تشغل الإعلام الأمريكي مؤخرًا.
"باربي" من الأفلام التي سيكون لها تأثيرٌ على شريحة من المجتمع الأمريكي استيقظت على واقع الحرب الثقافية وسؤال الجنس والهوية الجنسية، فيحاول الفيلم إعادة هذه الشريحة إلى الأسئلة القديمة التي لم تُتجاوز بعد، وترتبط بطبيعة المجتمع الأبوي وخطابات الهيمنة الذكورية وغيرها من الأسئلة التي كانت أساسية قبل عقود، إلا أنها تراجعت مؤخرًا لتحل محلها أسئلة وصراعات يراها كثيرون بلا معنى، ومفتعلة، وهدفها صناعة صراعات عبثية تخالف المجتمع والطبيعة الإنسانية.