فيلم «آخر زيارة».. من يملأ فراغ الحكاية؟

إذا كانت مهمة المخرج السينمائي الأولى هي نقل الحكاية إلى صورة من خلال الكادر، فإن مهمة كاتب السيناريو الرئيسة هي تأسيس هذه الحكاية، وبين المهمتين أو الوظيفتين تفاصيل أخرى توضح وجهة النظر الفنية، والمخرج عبد المحسن الضبعان بصحبة صديقه ورفيق دربه فهد الأسطاء (كاتب السيناريو)، لا ينقصهما الوعي السينمائي، ولا الرؤية الفنية، فهما منذ بدايتهما حاضران في مجتمع السينما، كتابةً ونقدًا، وتفاعلًا، لماذا إذن تنازلا عن تعبئة الفراغ داخل فيلمهما؟ ظل هذا السؤال يدور في ذهني بعد مشاهدة فيلم «آخر زيارة» (2019)، الذي شارك في عدد من المهرجانات الدولية، وتُوِّج بجائزة لجنة التحكيم في أحدها، هو مهرجان مراكش السينمائي الدولي.

أعتقد أن هناك شكلَين من أشكال تقديم العمل الفني، الشكل الأول يقوم على الأخذ بيد المتلقي إلى كل التفاصيل، وعدم الاتكاء على ذكائه المفترض، وفي العادة هذا النوع من التقديم يخرجنا -المتلقّين- بوجهات نظر متطابقة تجاه بيان العمل، والشكل الثاني يكون فيه للمتلقي وجهة نظر فنية، فمن خلال معطياته الثقافية ورؤاه الفنية، يمكن للعمل أن ينتقل إلى زوايا تأويلية أكثر رحابة، وإلى وجهات نظر متباينة. من خلال هذا الفهم لطرائق تقديم المادة الفنية، يمكنني القول إن فيلم «آخر زيارة» اعتمد الشكل الثاني، الذي يلعب فيه المتلقي دورًا محوريًا في تشكيل المعنى.

وليس لديَّ مشكلة مع هذا الشكل من التقديم الفني، بل أجدني أميل إليه، ولكن المشكلة الصغيرة لديّ، والتي أضعفت من مستوى تفاعلي مع الفيلم -بوصفي مُشاهدًا يحاول جاهدًا أن يخرج بالمعنى الخاص به من العمل- تكمن في نوعية الحكاية، فالحكاية التي تقوم على فكرة العلاقات المعقدة بين أفراد العائلة -الذكور تحديدًا- فالأب «ناصر»، الذي أدى دوره الفنان أسامة القس، والابن «وليد» الذي قام بدوره الفنان عبد الله الفهاد، بينهما سوء تقدير لبعضهما، وحالة صمت جدارية تتسع من خلال اقترابهما من بعضهما في رحلة السفر، التي تغيرت من زيارة لمناسبة زواج في الشرقية، إلى عودة مفاجئة إلى قرية الجذور والمنابت حيث والد ناصر المحتضر، هناك حيث تتسع الفجوة بين الابن وأبيه، حين يرى طريقة عمه في التعامل مع أبنائه، وفي علاقتهم الطبيعية، التي يتخللها قصص وأحاديث عفوية، مقابل علاقة ناصر وابنه المتوترة والمرتبكة.

هذا النوع من الحكايات رتيب بطبعه، وليس لديه طموح كبير من ناحية استخراج مكنونات نفوس شخصيات العمل، فلا وجود واضح لتعقيدات الحكاية، التي تستدعي بالضرورة ذكاء المتلقي، أو تتطلب منه بذل جهد مضاعف من أجل الخروج بمعنى مختلف، وبعيد عن السائد، لهذا يمكنني أن أقول إن الطريقة أو الأسلوب الفني الذي استخدمه المخرج كان أكثر وعيًا من الحكاية ذاتها، الأمر الذي جعل من الفيلم -بوصفه مادة فنية- أقل من طموح المتلقي، الطموح الذي جعله المُخرج ممكنًا من خلال أسلوبه، في حين تراجعت الحكاية عن خدمة رؤية المخرج الفنية.

هذا يجعلني أفكر في الحل الذي كان متاحًا أمام مُخرج العمل، أو لعلي أتساءل -على الأقل- عن حل لهذه المعضلة التكوينية، فهل كان على المخرج أن يتنازل عن رؤيته الفنية، التي تطمح إلى الجزء التفاعلي من قِبَل المتلقي؟ أم كان على الحكاية أن تزيد من تعقيداتها التي توجب طرح الأسئلة أكثر من تقديم الإجابات؟ وفي الحالتين كان يمكننا أن نرى عملًا متخلصًا من المشكلات تمامًا، لكن -مع الأسف- تمسّك كل من الكاتب والمخرج بموقفهما الفني، وبالتالي تم التضحية جزئيًا بالعمل.

أقول دائمًا إن على الفنان أن يتخلص أو يتخفف من رؤيته الفنية الواعية، أثناء تعامله مع مادة العمل، فعليه أن ينزل أحيانًا بطموحه إلى مستوى الحكاية، فالطموح الفني يمكنه أن يتحقق من خلال مجموع أعماله، وما نسميه صوت أو رؤية المخرج من الصعب تحقيقها في عمل واحد، والذين قاموا بذلك جاءت أعمالهم مثقلة بالوعي الفني، فالتخلي فن أيضًا في بعض الأحيان، والذهاب إلى منطق الحكاية أهم من الذهاب إلى منطق المبدع، والدليل على ذلك أننا نرى أعمالًا كثيرة كانت بسيطة فنيًا، لمخرجين يمتلكون رؤية فنية عظيمة، لكنهم مارسوا التخفف نزولًا عند منطق الحكاية وممكناتها.

لقد كانت الشخصيات في فيلم «آخر زيارة» مرسومة ببراعة، والحكاية من حيث السرد واضحة في دلالتها، وموقع التصوير كان لطيفًا وعضويًا ويُشعر المتلقي بالارتياح الشديد. الغريب أن المخرج أراد للحكاية أن تكون لغزًا بشكل من الأشكال، فأظهر بعض الشخصيات التي لا علاقة أصيلة لها بالحكاية، فمَن هو ذلك الشخص الذي كان يُصلح سيارته، والذي ظهر في أكثر من لقطة بلا مبرر منطقي؟! ولماذا جعل شخصية وليد في آخر الفيلم تخرج من السيارة في طريق العودة بلا خدوش في وجهه، ثم يعود مرة أخرى إلى السيارة بخدوشه المعهودة والمنتمية إلى الحكاية؟! ما هي الخدمة التي قدّمتها رؤية المخرج في هاتين الجزئيتين؟! كنت سأتقبل هذا الانزياح لو أن الحكاية كانت مؤسسة على مقاس هذه الرؤية التي تنحو نحو التجريب، أو أنها كانت ثيمة المخرج في جميع مفاصل العمل، لقد شعرت أن المخرج كان يود من خلال ذلك أن يثبت توفر الرؤية الفنية في طريقته الإخراجية، وأعتقد أنه لم يكن في حاجة إلى ذلك، لأن الإخلاص للحكاية كان أولى، وكان سيشكل في وجهة نظري رؤية فنية أيضًا.

إن الانحياز لأفلام المهرجانات لا ينفي في تصوّري وجود الفيلم في حيز العادي والبسيط، فغياب العنصر النسائي كان كافيًا في تشكيل وجهة نظر فكرية تصلح للتلقي النوعي والثقافي، الذي يميل إلى فكرة إعمال الذهن واقتراح الأسئلة الكبيرة، والمكان -على سبيل المثال- كان كافيًا في جعل الفيلم ينحاز إلى هذه الجهة من التلقي بكل أريحية، وقد أحسن المخرج في تلك المَشاهد التي انطلق فيها وليد وحيدًا لاستكشاف المكان، المترع بالنخيل والمياه والأصوات وبيوت الطين. كان مشهدًا استثنائيًا، لكنه مع الأسف جاء ناتئًا بسبب طموح المخرج ورغبته في التعبير عن رؤيته الفنية المبالغ فيها، ما جعل للفيلم عدة مستويات متفاوتة لا رابط ينظمها، مستوىً يتعلق بالحكاية والسرد، ومستوىً بصريًا له علاقة بتأثيث المكان، ومستوىً غرائبيًا تخييليًا، وهذه المستويات كان لها تأثيرها السلبي على نوعية التلقي، فالحكاية واضحة يمكن أن تتحد حولها الرؤى، والصورة البصرية جاءت في أجزاء عادية وفي أجزاء أخرى فنية وجمالية، وهذا أربك المزاج العام لدى المتلقي، ثم جاء المستوى الغرائبي ليحرج ذكاء المتلقي دون هدف منطقي أو مقنع على الأقل، لهذا يمكن أن أقول في النهاية إن المخرج كان عليه أن يتخفف من رؤيته الفنية التي في ظني كانت سببًا في تراجع قيمة الفيلم من ناحية فعل التواصل والتلقي.

       

وعودًا على عنوان المقال، يمكن التنبيه إلى مسألة أراها في غاية الأهمية، تخص السينما السعودية الناشئة، هي الانتباه إلى أن الرؤية الفنية يجب أن تنطلق من معطيات وممكنات الحكاية، أو لنقول موضوع الحكاية، فالحكاية تمثل على الدوام المركز الذي يعتمد عليه كلٌ من صانع الفيلم والمتلقي، ويلتقيان فيه. صحيح أن هناك أعمالًا سينمائية يمكنها أن تخرج من هذا القياس العام، لكن لتلك الأعمال طبيعة حكائية تخصها أيضًا، ولا بأس في خوض غمارها، لكن ذلك لا بد أن يدخل ضمن شروط هذا النوع، لا أن يتأرجح بين الأفقين الفنيين، لأن ذلك يؤدي حتمًا إلى ارتباك غير محمود لتجربة المُشاهد، قد توصله إلى الانصراف تمامًا عن السينما السعودية، فمن الضروري تحديد الخط والمنهج الإخراجي، الذي يحدده -كما أسلفت- نوع الحكاية وممكناتها، لا رغبات المخرج ورؤاه الفنية.        

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى