فيلم «عثمان» ودهشة رسم الشخصية

ترتبط المادة الفيلمية بعنصر الدهشة ارتباطًا وثيقًا، فبروز السينما وتساميها على الفنون الأخرى له علاقة وثيقة بقدراتها الهائلة على صناعة الدهشة. يصف الفيلسوف «رينيه ديكارت» الدهشة بكونها الشعور الإنساني الأول، فهي حالة من الأحاسيس العقلية الغامضة والمكثفة، تتكون من لحظة المواجهة بين وعي الإنسان وشيء آخر مفاجئ أو نادر أو غير متوقَع، ولا شك أن لهذا التوصيف الديكارتي علاقة ضرورية بالمفهوم العام للجمال، الناشئ من الشعور الطفولي الجوهري، الباحث دائمًا وأبدًا عن إجابات للأسئلة الصغيرة، المحفزة -بالتالي- للاكتشاف والمغامرة الذهنية.

هذه العناصر وارتباطها بهذا الشعور الإنساني وصلني وفكّرتُ فيه أثناء مشاهدتي للفيلم السعودي «عثمان» من تأليف وكتابة عبدالعزيز العيسى، وإخرج خالد زيدان، والذي فاز بجائزة الشراع الفضي في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة لمهرجان الإذاعة والتلفزيون بدولة البحرين. 

ولو ذهبتُ أحلّل عناصر هذه الدهشة التي اجتاحتني في تلك الأثناء، يمكنني أن أقسمها إلى جزأين أو محورين، جزء موضوعي متعلق بقصة الفيلم وحكايته الأصيلة، وطريقة تعاطي الكاتب مع خطابها النهائي، الذي بدا فيه الميل الجارف ناحية التهكّم، وجزء فني رائع ومتجانس مع الجزء الموضوعي، وأظن أن أكثر هذه الأجزاء الفنية قوة وحيوية، هو المتعلق بالتمكّن في رسم شخصية عثمان بطل الفيلم، وقد أحسن صنّاع الفيلم بوضع هذا المكون الإنساني عنوانًا للفيلم، كما أنه دليل أيضًا على وعيهم بالقيمة العليا للعمل الإبداعي، فعلى ما في ذلك من مغامرة كبيرة، إلا أنهم نجحوا في صناعة الدهشة من خلال ثقتهم في أداء الممثل والمسرحي الرائع أحمد يعقوب الذي قام بدور عثمان، الشخصية التي توهم بحقيقيتها وقدرتها على انعكاس الحالة الإنسانية من الفن إلى الواقع. يذكّرنا ذلك بقبس من الأفلام التي فعلت الشيء ذاته مثل فيلم «زوربا» الذي يضع احتمالية وصفنا لشخصيات من الواقع على أساس الشخصية الفيلمية، كأن نقول عن شخص موجود وحقيقي إنه «زوربا»، وهذا ما ينطبق تمامًا على شخصية عثمان، التي -على الأغلب- ستطرأ على ذهن كل من يصادف حارس أمن «سكيورتي» في واقع الحياة؛ لهذا ننعت الحكاية بالأصيلة، لأن مواصفات حارس الأمن ودقة رسمه في الفيلم سهّلت عملية الربط بين الواقعي والتخييلي، والجميل في الفيلم أن الشخصية التخييلية قدّمت كثيرًا من الإضافات للشخصية الواقعية، وأعطتها أبعادًا فلسفية تُحفّز المتلقي على فعل التأمل الذي يصحب الدهشة دائمًا.

في العادة يعتمد رسم الشخصية في الأفلام الروائية على مكونات موضوعية تبدأ من الحكاية وتنتهي بالتحولات الذاتية جرّاء الأحداث، وهذا يحتاج إلى زمن ممتد لا تتحمله الأفلام القصيرة، لذلك يعتمد صانعو الأفلام القصيرة على الحيل البصرية، التي تحتاج إلى تدقيق وانتباه، ولعل هذا الانتباه متوقع من متلقي هذا النوع من السينما، فأي تفصيلة صغيرة تكون ضرورية جدًا، وأي تكرار يجب أن يُحسب حسابه، لكي لا يتحول من عنصر جمالي إلى خلاف ذلك. في هذا الشأن يمكن ربط تكوين المادة البصرية بالمادة اللغوية، التي تعتمد على البراعة والإتقان في الحذف، ولو حاولتُ ممارسة التأمل في جانب التكرار سأجد دلالات بصرية توحي إليه من مادة الفيلم، بخلاف التقديم لكل جزء من أجزاء الفيلم الذي تم تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء -«ثلاثة أيام قبل الهجرة»، و«يومان قبل الهجرة»، و«الهجرة»- مع تحفظي على استخدام مصطلح الهجرة، لأن الحكاية قائمة على العودة إلى الجذور (الديرة) وليس الهجرة التي تشي بالمعنى العكسي. ومن هذه الدلالات البصرية إظهار جمالية الطريق ذهابًا وإيابًا، هذه الجمالية التي كوّنت صورة جغرافية واضحة للمكان وعلاقة الإنسان به، رغم عدم الإفصاح عنه بشكل مباشر. 

وكذلك التكرار في نوع المأكول والمشروب الذي يشير بدوره إلى الأبعاد الاقتصادية والطبقية دون محاولة إقحامها في إفصاحات الحكاية المباشرة، فأي شخص مهما كانت ثقافته ووعيه سيلاحظ نوعية هذه التغذية البسيطة التي تعتمد على منتج مانجو رخيص ومحلي، وبيتزا من مطعم شعبي داخل الحارات،  مع وجود نوع من المفارقة اللذيذة في نوعية ما يشاهده عثمان بطل الفيلم من برامج وثائقية متعلقة بعالم الأسود وتحكمها بالنظام البيئي، التي يوظفها ويُسقطها على واقعه الذي يعيشه داخل عمله وهو موظف بسيط يقبع في أدنى مرتبة وظيفية، ومحاولة مقاومة ذلك التدنّي، واستغلاله في نهاية الفيلم كمفارقة تهكمية صاخبة، تقوم على فكرة الاستحواذ والغنيمة، أكثر من قيامها واعتمادها على السرقة والأخذ، والدليل على ذلك ضحك عثمان المسرحي والهستيري الذي يصاحب لقطة النهاية، التي تعلي البُعد الذهني المرتبط بالدهشة عوضًا عن البعد المادي المعتمد على النهب واستغلال مركزه ووظيفته الأمنية، ففي ثنايا الفيلم وداخل سرديته ما يبعد فكرة الاستغلال لدى عثمان، وذلك من خلال تعاطفه مع الجارة، ومع الزميل الذي ينسى بطاقة دخول مواقف السيارات، بخلاف موقفه مع الطبيب المتعجرف بسيارته الفارهة. 

ولو لاحظنا تلك التفاصيل سنتنبّه حتمًا إلى ما تقوله الحكاية عن عثمان من خلال الصورة، والصوت السينمائي، والأفعال البسيطة، التي تشير فقط، وتترك للمتلقي متعة وجمال التفسير، مع الأخذ في الاعتبار جمالية التجانس بين الواقعي والتخييلي، وما يمكن حدوثه في الواقع وما يكون مستبعَدًا. هذا النوع من التجانس هو مادة الخلق والتكوين الفني، الذي قدّمه كاتب العمل ومخرجه ببراعة حقيقية، صنعت دهشة الشخصية السينمائية، التي قام بأدائها أحمد يعقوب بشكل لافت، ولا شك في أن هذا النوع من الأعمال السينمائية يحمل قدرًا ليس بالهين من الاعتماد على مدرسة الممثل الشهيرة، التي يبذل فيها الممثل قدرًا كبيرًا من وجوده الذاتي مقابل الشخصية التخييلية. قد يحتاج إلى كثير من العمل للخروج منها، ليواصل عمله بصفته فنانًا محترفًا يمتلك القدرات النفسية والذهنية الفائقة ليتسنى له لعب الأدوار الأخرى.

وما أودُّ الإشارة إليه أخيرًا، هو الجمال المضاف للفيلم من خلال المونتاج والتقطيع الإبداعي، والعناوين الجانبية لأجزاء الفيلم الثلاثة، واعتمادها على القيمة المعجمية، المعتمدة على البحث اللغوي، وكذلك الموشن جرافكس الذي ظهر بعد نهاية الفيلم، والذي يهمل العناية به كثيرون من صناع السينما السعودية، فهذا المكوّن أعطى للعمل بُعدًا جماليًا بالغ الروعة، كما أعطاه بُعدًا احترافيًا دعائيًا، فيه تجانس إبداعي عظيم مع زوايا التصوير داخل الفيلم، ونوعية الموسيقى الغربية، التي جاءت صافية وطبيعية رغم مفارقتها مع مواقع البطل وطبقته وتدني مستواه الوظيفي، ورغم ذلك كان في مكونات وعناصر العمل ما يدافع عن تلك المفارقة، التي ساعدت في الوصول إلى الدهشة من شخصية عثمان، التي رُسمت كما لو أنها لوحة تجريدية بالغة التعقيد والجمال.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى