في السينما اللّانمطية

January 15, 2024

تُصنّف السينما التخييلية إلى صنفين كبيرين هما السينما النمطية (الكلاسيكية) والسينما اللانمطية1. وبديهي أنّ اللانمطي هو ذلك الصنف الذي يخرق ما كرّسته التجارب الذائعة من صيغ في الإنشاء ومن بنى عميقة وجعلته العنصر المهيمن الذي يفرض رؤيته ويحوّلها إلى معيار نستند إليه لفرز «السليم» من غيره، فنعدّه عنصرًا مارقًا2. ولنرصد عناصر المروق في هذه السينما اللانمطية لا بدّ أن نستعيد شيئًا من ذلك القارّ الثابت الذي يميّز السينما النمطية3 ويشكّل عماد بنائها الدرامي شأن فرض الحبكة الدرامية لوحدة الموضوع وللتّرابط بين الأحداث وفق عنصر السببيّة وتوزيع مفاصل العمل وفق بناء هرمي يستجيب إلى شروط خاصّة بالبداية والوسط والنهاية ويجعل الصراع قوام التعاقب بين الأحداث أو العلاقة بين البطل والمناوئ4.

ولا بد لكل نمط من عوامل مختلفة تفرض هيمنته. ومما أسهم في فرض شكل السينما الدرامية، الهوليوودية أساسًا، وجعل بنيتها العميقة طرازًا تهتدي به سائر الأفلام، أثرُ التجارب البعيدة والموروثة في تشكيل الدراما، فنسْق البناء الثلاثيّ الذي يُفرَّع إلى بداية ووسط ونهاية، هو نظير للوحدات الثلاث من المسرحيّة التراجيديّة،5 وضبط الأحداث والشخصيات وفق حبكة تؤجج الصراع بين الأقطاب المتناظرة وتنتهي إلى معاقبة الشخصيّة الآثمة لا يخلو من الوظيفة التطهيريّة التي جعلها «أرسطو» سمة مميّزة لهذه المسرحية6.  ومردّ ذلك أنّ الفيلم الكلاسيكي اعتمد في ضبط بنيته العميقة أوّل نشأته على تلك المؤثرات الإغريقية القديمة.  وللجانب الاقتصادي أثره الفاعل بكلّ تأكيد، ففي السينما تسير الصناعة والاستثمار جنبًا إلى جنب مع الإبداع. لذلك ينزَع النمطيّ منها إلى تحويل الأفلام إلى منتج استهلاكي ممتع يستدرج المتفرّج إلى شباك التذاكر، فيعوّل على المغامرات والتشويق اللذين يشدان الأنفاس، وعلى المؤثرات التي تؤجج العواطف. وتبسُط هذه السينما هيمنتها خاصّة في البلدان التي تشكّل ساكنتها سوقًا سينمائية مهمّة ويشجع نظام الإنتاج فيها على الاستثمار في الثقافة شأن هوليوود (السينما الأمريكية) أو بوليوود (السينما الهندية) أو نولييود (السينما النيجيرية) أو محاولات فرض سوق باسم سوليوود لتختصّ به السعودية.

لم تكن هذه السينما النمطية محلّ تبجيل، من النخب دائمًا، فعلى مدار تاريخها الذي يمتد الآن لأكثر من قرن وربع، شهدت حركاتٍ مناوئةً عديدة حاولت أن تكسر النمط الذي تفرضه، أهمها السينما الصافية والسينما الطليعية والسينما التجريبية والسينما التعبيرية والسينما الشعرية والسينما السريالية وسينما المؤلف والسينما التجريدية. ورغم ما بين هذه الاتجاهات من التداخل حينًا والتقاطع حينًا آخر والخلط حينًا ثالثا، تُجمع ضمن صنف السينما اللانمطية، وتشترك في مناهضتها لأسلوبها الذي يميل إلى سردٍ يستنزف مشاعر المتفرّج بالتشويق ويعتمد حبكات عضوية ووضعيات ميلودرامية تجعله يتعاطف مع الشخصيات بدلًا من أن يفكّر في الأسباب العميقة التي تقودها إلى المآل الذي انتهت إليه، ويقدّم له العالم على أنه نهائي وثابت لأنه محكوم بسلطة خارجية لا قِبَلَ للإنسان بالتمرّد عليها.

وبالمقابل تنزَع السينما المناوئة لها - والتي يشار إليها بالسينما اللانمطية - إلى التمرد على معاييرها من جهة الأسلوب ومن جهة الفكر، وتحاول أن تكون جدارَ صدّ يقطع مع النزعة الاستهلاكيّة ويعمل على الارتقاء بالوعي الجماعي، فيقاوم الغزو الثقافي ويسهم في تأسيس ثقافة وطنية7 تجذّر المواطن في هويته ولا تتراخى في الآن نفسه عن طرح الأسئلة المحرجة أو المصيريّة. ولكن السينما فنٌّ مكلف لكثرة المتدخلين فيه واستثمار «خاسر» عند من يبحث عن المردودية المالية المباشرة. لذلك تظل هذه السينما مستطيعة بغيرها، بالدعم الداخلي الذي تتولاه الهيئات المحلية أو التمويل الخارجي الذي تتولاّه صناديق أوروبية بالأساس. وهذا ما يعرّي نقطة ضعفها الكبرى ويحدّ من مصداقيتها، فهدفها إدانة الطرف المهيمِن ووسيلتها ما يجود به هو من مال لتُنجز أفلامها. وكثيرًا ما يستجيب هذا الطرف المُدان لطلبات التمويل تحت عناوين جذّابة نحو «تنمية سينما الجنوب وشدّ أزرها» أو «دعم نضالات المرأة» أو «مناصرة الأفكار الحرّة حتى تصل إلى الشاشات». ولا بدّ أن نسجّل تأكيد المخرجين والمنتجين أنّ الجهات المانحة تحترم الحقّ في الإبداع الحرّ، فلا تفرض على المبدع رأيًا معيّنًا ولا توجّهه إلى تبني فكر بعينه.

لا يساورنا شكّ في أنّ ما يقوله مخرجو هذه الأفلام اللانمطية ومنتجوها كلام حقّ، ولكنّنا على قناعة أيضًا بأنه يخفي باطلًا بقصد ونية، فقد بيّنت التجربة أنّ هذا الدعم يخلق مشكلات جديدة تؤثر عميقًا في محتوى الأفلام وفي اختياراتها الجمالية، وأنّ كل تلك القيم الجميلة شأن احترام حرية التعبير وشدّ أزر السينماءات الناشئة تبقى عناوين برّاقة خادعة، فمن الطبيعي ألاّ تدعم هذه الدول الأفلام إلاّ بعد قراءة سيناريوهاتها وألا تختار منها إلا ما يتماشى مع سياساتها ويتوافق مع تصورها النمطي للمجتمعات العربية وبلدان جنوب الصحراء. والعودة إلى الأفلام المدعومة أوروبيًا تكشف بجلاء هذا «التناغم» بين أطروحات المبدعين وآفاق انتظار الجهات الداعمة، فرجل الجنوب في هذه السينما ضحية لـ«ثقافته المتخلفة»، «القائمة على العنف والقهر»، لذلك غالبًا ما يكون فاقدًا لتوازنه النفسي والاجتماعي. والأطفال مشرّدون ضحايا للعنف، والمرأة محرومة من الاستمتاع بجسدها، مقموعة خاضعة للمجتمع الذكوري المتسلّط. ويُختزل المجتمع في صور فلكلوريّة تكرّس تخلّفه وانخراطه في عالم الإجرام والمخدّرات. أما الأقليات فمضطهَدة في مجتمع غير متسامح يعاني من صعوبات في تقبّل الآخر المختلف ومن فوبيا المثلية الجنسية.

صحيح أنّ الإبداع في أهم تعريفاته حفر في المنسجم في حياة الأفراد أو المجتمعات على مستوى الطبقة السطحية للوقوع على المشوّه والمختل المسكوت عنه في الطبقات العميقة بحثًا عن تقويمه، ولكنّ هذه السينما تسرف في هذا الحفر لتتحوّل إلى جلد مدمّر للذّات وإلى تعسّف على المجتمع وإلى انتقاد محبط عاجز عن بناء النماذج الإيجابية التي ترنو إليها السينما الطلائعية. ولذلك فغالبًا ما تنتهي مختلَف هذه الاتجاهات اللانمطية إلى فنّ مراء يعلن مقاومته للاغتراب والاستلاب ويجسدهما في أتعس صورهما واقعًا. وهذا شيء مما سنتبسّط فيه في ورقاتنا اللاحقة ونحن نعرض نماذج وتيارات من هذه السينما، فنتوقف عند خصائصها ونتوسّع في خلفياتها الجمالية والفكرية ونعرض الالتباسات التي تصاحب عمليات تصنيفها.

الهوامش:

1. يمثّل تصنيف الظواهر الفنية بحسب أنماطها وأجناسها وأشكالها عنصرًا ضروريًا للفهم والتأويل، رغم ما يتضمّنه غالبًا من تعسّف باعتباره عنصر مفهمة يركز على المشترك والمتداول من المادة المتشعّبة، فينبهنا إلى خصائصها البنيوية وعناصر التشابه فيما بينها ليخضعها لأفهامنا ويمنحنا من قدرة على السيطرة عليها. ولكنّ كل تنميط يهمل العناصر الفريدة الذي يعود إليه تميّز الآثار الفنية وهو ينشد هذا المشترك، غالبًا. 
2. يشمل التنميط كل مجالات الحياة، فيتحقّق في اللّباس والأكل والعمل. ورغم أنّ المصطلح (نمط) يوحي بالثبات على هيئة واحدة، يتغيّر هذا النمطي بتحوّل الزّمن لعناصر عديدة تسهم في حركته البطيئة هذه. فالعولمة مثلًا تجعل النمّطي من بقية الثقافات يتخلّى عن خصائصه المحليّة وينزع شيئًا فشيئًا إلى التوحّد بالمنوال الأمريكي، والأزمات الكبرى تفعل الأمر نفسه، فأزمة كوفيد 19 مثلًا، أثّرت في تصوّرنا لأسلوب العمل النمطي المتمثّل في مكتب ثابت وموظّفين قارّين، وفق ساعات عمل مضبوطة ودوام محدّد،  لتفرض العمل بمعايير جديدة.
3. كنّا قد عرضناه بتوسّع في ورقتنا السابقة التي حملت عنوان «السينما الكلاسيكية».
4. يختزل «سيد فيلد»، رائد كتابة السيناريو في هوليود، أسس السيناريو في الفيلم النمطي فيقول: «يعكس كل عمل درامي صراعًا، وإذا عرفتَ حاجة الشخصيّة فبإمكانك أن تخلق العقبات أمامها وصولًا إلى ذلك الصراع» مقدّرًا أنّ قانون «نيوتن» القائل بأن «لكل فعل ردّ فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه» ينطبق على بناء الفيلم تمامًا. لمزيد من التوسّع انظر  سيد فيلد، السيناريو، ترجمة سامي محمد، دار المأمون للترجمة والنشر، 1989،  ص 34 ويشير «جان- بول تورك» إلى أهمية المواجهة من الفيلم النمطي فيقول: «وبمقدار ما يكون الخطر عظيمًا وضاغطًا بمقدار [كذا] ما يكون فعل القصّة قويًا وفعّالًا». جان- بول تورك، السيناريو: فن كتابة السيناريو، ص 186. 
5. يصف «رشاد شادي» مفهوم الحدث الدرامي عند «أرسطو» بكونه «ليس فقط كائنًا عضويًا تترابط أجزاؤه بالضرورة والحتميّة، ولا ينفرد جزء منها بوظيفة عن الأجزاء الأخرى... إنه حدث له بداية ووسط ونهاية». رشاد رشدي: نظريّة الدراما، من أرسطو إلى الآن، هلا للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة 2000، ص 23.
6. «لقد فُرضت ضوابط الوحدة (وحدة الموضوع وشكل الفعل والنبرة إلخ...) من قَبل أرسطو ومن بعده من قِبل أغلب منظري الفن الدرامي. يشكلها أرسطو على النحو التالي: "فالقصة كمحاكاة [كذا] لفعل يجب أن تعرض فعلًا واحدًا، تامًا في كليته، وأن تكون أجزاؤه العديدة مترابطة ترابطًا وثيقًا حتىّ إنه لو وُضع جزء في غير مكانه أو حُذف فإن "الكلّ التام" يصاب بالتفكك والاضطراب، وذلك لأن الشيء الذي لا يُحدث وجوده أو عدمه أثرًا أو فرقًا ملموسًا لا يعتبر جزءًا عضويًا في "الفعل التام""» Michel Chion : Ecrire un scénario , Paris 2007, P 125 وقد أوردنا مقولة أرسطو من  أثره «فن الشعر»، ترجمة إبراهيم حمادة، مركز الشارقة للإبداع الفكري، دت، ص 134.   
7. في بلدان الجنوب خاصّة.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى