تنتشر الصور اليوم في كل مكان ومجال، في الفنون والإشهار وفي نشرات الأخبار وعالم السياسة، فتُسهم بشكل رئيس في تشكيل وعي الإنسان وفي التعبير عن كل لحظة من لحظات عيشه. وبعد أن كانت الصورة تَرفِد الكلمة فتثريها، أصبحت تحل محلها. ولعل هذه السمة هي ما جعلت الفرنسي رولان بارت يصف الحياة المعاصرة بحضارة الصورة وجعلنتا غير قادرين على أن نتخيّل الحياة المعاصرة من دونها.
لقد باتت صناعة قائمة بذاتها، لها "ورشات" تقدّ فيها ولها صنّاعها وسوقها وخبراؤها الذين يقيّمون قيمتها البلاغية ويحدّدون وقعها المحتمل على مستهلكها، فينطلقون من التّقني الصّرف كأسلوب توزيع العناصر على سطح فضاء وخصائص تشكيل الاستعارات البصريّة ونسب تباين أضوائها وكيفيّة تأطيرها وقدرتها على استدعاء الزّمن، ويجعلون من هذه الأنساق البصرية أداة للتحكّم في الأنساق الثّقافيّة وفي ما تولّده من ردود الأفعال. ذلك أنّ المرء لا يتمثل الأثر الفني إلا من منطلق وموقف فكري أو حضاري مكتسب من ممارساته اليوميّة ومن ذاكرته، خزّان تجاربه وموسوعته الثقافية.
تكفل لنا الصورةُ المعاينةَ المباشرة للواقع، أو هكذا كانت في بدايات استعمالها على الأقل، لذلك قالت العرب «ليس الخبر كالعيان» أو قالت «ليس مَن رأى كمَن سمع». ولكن الصّورة فقدت تلقائيتها وأصبح صانعها يتدخل في عملية تشكيلها تحويلًا وتبديلًا، لذلك قال Arthur Brisbane محرر جريدة فلاندررعام (1911): «اعتمدوا الصورة فإنها تعادل ألف كلمة». ومع انتشار الثورة المعلوماتية اليوم واعتماد البرمجيات والذكاء الاصطناعي، باتت عنصرًا أكيدًا في صناعة وعي الأفراد والمجتمعات بذواتهم وهوياتهم، وفي تحديد الأدوار التي تُعهد لهم في هذا الكون. والمفارقة الكبرى تحدث هنا؛ فعصر الصورة أصبح عصر العمى إذ إننا لم نعد نرى بأعيننا نحن وإنما بأعين هؤلاء المحترفين الذين يقررون لنا ما يُعرض علينا من المشاهد ويقصون منها ما لا يجب أن يُعرض. وعليه قد نعتقد أنّ الاطمئنان والسكينة يغمران العالم اليوم رغم النيران التي تشتعل هنا وهناك من حين إلى آخر، وأنّ كل شيء على ما يرام بسبب تأثير هذه الصور التي تستهلك في لاوعينا وتتحكم في ردود أفعالنا بخيوط سحرية. ولكن تحت صفحة الماء الراكدة تُخاض المعارك وتُدبّر المهالك لتدمير الممالك.
يعتقد عالِم التحليل النفسي الفرنسي جاك لاكان أنّ هويّة الطّفل تأخذ في التّشكل أمام المرآة، عندما يتملَّى صورته فيها ويدركها على أساس أنها ذاتٌ عُليا مكتملة، فتتشكل في ذهنه "أنا" مثالية وانطلاقًا منها يهيئ ذاته لتقمّصات مستقبلية مع الآخرين. ثمّ طوّر من تصوّره لهذه المرحلة لاحقًا، مبرزًا أنّ أثرها في بناء الذات يتواصل مدى الحياة. فـ"التقمص الثانوي" يوفر لنا هوية مرئية ويساعدنا على إدراك ذواتنا انطلاقًا من الآخر ويمنحنا "شكلًا" خياليًا لتجربة حقيقية مجزّأة، فيتجه الإدراك نحو البعد الموضوعي بعد أن كان يتجه إلى الذات. وهكذا يتحوّل التقمّص من خلق "أنا" مرآوية منكفئة على نفسها إلى إيجاد "أنا" اجتماعيّة متفاعلة مع الآخر. وعلى هذا النّحو يتم البناء النرّجسي، فينطلق المرء من صورة الذّات لإدراك الآخر ضمانًا لبعده الاجتماعي.
وانطلاقًا من تصوّره هذا انتبه كريستيان ماتز، الباحث السيميائي الألمعي، إلى دور السينما، باعتبارها مرآة تساهم على نحو ما في تشكيل وعينا بذواتنا وبالآخر. ولما كانت صورها مصطنعة، على خلاف الصور المرآوية التي يبني من خلالها الطفل هويته، غدت هي المجال الأكثر خطورة في التلاعب بالعقول. فالظاهر أنها محض لبنة في صناعة الحكايات الجميلة والمغامرات المثيرة، ومنتجٌ مربحٌ يُعرض في الصالات فيجذب الباحثين عن التسلية وتزجية الوقت. ولكنّ خلق العوالم الممكنة على نحو مدروس وصنع الأبطال الخارقين وفق مخطّطات سابقة يسيطر على إدراكنا ويحدّد لنا من حيث لا ندرك الصورة المثالية التي يجب أن يكون عليها عالمنا الفعلي، فتغدو أداة لفرض هيمنة الآخر الثقافية وبسط سيطرته وفرض تصوراته.
لقد أصاب السينما اليوم ما أصاب كل القيم الأصيلة من انحراف عن الأصول، فتآكلت الحقيقة وأضحت آلة لتزييف المعنى وهيمنت على أفلامها ثقافةُ المظهر والشكل والمؤثرات المبهرة، وسادت ثقافة الاستهلاك والنسخ وصناعة النجوم التي تُحوّل البشر إلى ماركات مسجلة توظفها شركات الإنتاج من أجل الربح الأقصى. وضمن هذا الأفق السلبي يُطرح السؤال: ما دورنا – نحن العرب – في هذه المصانع العملاقة لصناعة الوعي؟ أليس من حقّنا أن نتحوّل من وضعية الخضوع والاستهلاك إلى صناعة صورنا بأنفسنا حتّى تكون رافدًا لبناء إنسان عربي متوازن يجمع بين أصالته وانفتاحه على عصره دون تطرّف أو مغالاة؟
لا يمكن للسينما أن تتولى هذا الدور ما لم تُشكَّل من طبقات متراكبة، يقدّم لنا المستوى الأول منها التسلية المنشودة ويستدرجنا للتفاعل مع ما يُختلق من المغامرات. ولكن تحت هذه الطبقة لا بد من طبقات أخرى أكثر عمقًا لا ننتبه إليها إلا بالحفر عميقًا في آلياتها لتشكيل الصورة الأفضل التي يجب أن يكون عليها عالمنا الفعلي. وهذا تحدٍّ على قدرٍ من الأهمية، فهو يصادر على قدرة سينمائيينا على ابتكار هذا الأثر متعدد الأبعاد، الجامع بين الممتع والمفيد في آن، وعلى كفاءة المتفرّج العربي في تجاوز طبقات الفيلم السطحية ليغوص في دلالاته العميقة.
لأجل هذه العوامل كلّها تظل صناعةُ سينما وطنية جدارَ صدٍّ ضدّ الغزو الثقافي، كما تسهم في ترسيخ مقوماتنا الحضارية والقيمية وفي تجذير هويتنا وتدعيم اعتزازنا بالانتماء إليها. وإلى زمن قريب كانت الأفلام العربية طلائعيّة سبّاقة إلى طرح الأسئلة المحرجة أو المصيريّة، ساعيةً إلى القطع مع النزعة الاستهلاكيّة، عاملةً على الارتقاء بالوعي الجماعي. وقد نجح كثيرٌ منها بالفعل في أن يديرَ إليه الرقاب وأن يحوزَ احترامَ النقاد والمتفرّجين على حد سواء. ولكن هذه الصناعة ما فتئت تتقهقر في أيامنا حتى غدت تعيش أزمات متعدّدة. فقد جعلتها تبعيتُها إلى صناديق الدّعم الأجنبية تواجه صعوبات جمة في فرض أسلوبها ورؤيتها وتصوّراتها للمجتمع الممكن. والأزمة نفسها تتجسّد على مستوى النّقد الذي يدعم تقبلها وتأويل أبعادها بعد أن عُطّلت الأقلام الجادة بفعل غياب أفضية نشر الثقافة السينمائية وافتقاد أسبابها المادية، وبالتالي نابت عنه الكتابات المجاملة التي تفتقد إلى الخلفيات الجمالية والفكرية. والحال أنّ السينما ككل الفنون لا تستطيع أن تتقدّم إلى الأمام ما لم تعتمد في خطوه على الرِّجلين معًا: الإبداعِ والنقدِ.
وعلى خلاف ما يسم المشهد السينمائي العربي عامّة من سماء غائمة وضباب كثيف، يبدو المشهدُ السعودي اليوم مختلفًا بما يرسّخ من مؤسسات فاعلية تخطّط للمستقبل وتراهن على السينما وتعمل على صناعة أعمال فيلمية فنية قادرة على تغطية مصاريفها باعتبارها صناعة ثقافية في المقام الأول، وعلى جانب آخر، تحترم عقل مشاهدها فتبتعد عن الإسفاف الذي كثيرًا ما تجنح له الأفلام التجارية، وتعمل على مقاومة الغزو الثقافي لتحصين العقل العربي من المؤثرات الخارجية وتجذير المواطن في ثقافته وتدعيم اعتزازه بهويته.
وهذا مكسبٌ يتجاوز مداه حدودَ المملكة ليشمل الثقافة العربية عامّة، خاصّة أنّ هيئاتها باتت تسهم في تطوير الأفلام بما تُقدّم من مِنَح ووِرَش عمل. ولأن التحدي الذي ترفعه هذه السينما جسيم ومصيري في الآن نفسه، لا بدّ للنقد السينمائي الجاد أن يواكب هذه النهضة ويؤازر هذه الحركة.
ومن وجوه هذه المؤازرة العمل على نشر الثقافة السينمائية عبر التبسط في مجمل المفاهيم والظواهر السينمائية المهمة حتى نتعرّف من خلالها إلى خصائص السيناريو بما هو جنس إبداعي تقني ووسيلة تعبير، وإلى الأنماط السينمائية الكبرى بمجاليها الروائي والوثائقي، وإلى مختلف الأجناس ضمن كل نمط. ومن وجوهها تعريفنا بالفيلم الكلاسيكي أو النّمطي وفروعه الكثيرة كأفلام السيرة والبورتريه والأفلام التاريخية، والفيلم اللانمطي الذي يتمرّد على التصورات التقليدية للإبداع السينمائي ويُفصّل إلى الفيلم التجريبي والفيلم الشاعري وسينما المؤلف. ولها أن تعرض خصائص النمط الوثائقي وتفصله إلى أجناس مختلفة كالأفلام الوثائقية الشاعرية والفيلم الوثائقي التخييلي والفيلم التسجيلي الإخباري وفيلم التحقيق الصحفي والفيلم العلمي والفيلم التعليمي.
لا بد لمن يقصد قاعات السينما من أن يحصّل المتعة ولا بد للفيلم من أن ينتزعنا من واقعنا لنعيش الحلم عبر التخييل والإيهام. ولكنّ ذلك لا يعني أبدًا أن السينما صناعة للترفيه على نحو مجاني وأن السينمائي أبو دلامة العصر، يجالس المتفرّج ويعمل على تسليته. والإبداع السينمائي لا يزيد في ظاهره عن خلق المغامرات المثيرة وفي باطنه عمل جادّ مكلف، ولا يمكن أن يزدهر ويحافظ على ألقه وعلى دوره ما لم يتعامل معه جميع الناس على هذا الأساس، وما لم ننتبه إلى أنّ الصراعات الحضارية اليوم تُخاض بعدسات الكاميرا لا بفوهات البنادق، ويوظفها الأشرار للتلاعب بالعقول ويعتمدها الأخيار للرفع من إنسانية الإنسان والرقيّ بوعيه.
لنكن إذن في صف الأخيار ولنسهم في نشر الثقافة السينمائية البانية للإنسان لا المدمّرة له والمزيفة لوعيه والباحثة عن الربح الأقصى على حساب بعده الإنساني.
لنسهم إذن في نشر الثّقافة السّينمائية الحقّ.