في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي أعلن بيرغمان أنه سيختتم مسيرته السينمائية الحافلة بفيلمه «فاني وأليكساندر» (1982 - Fanny and Alexander)، وهو العمل الأضخم إنتاجيًا في مسيرته، وكان عند صدوره الأضخمَ إنتاجيًا في تاريخ السينما السويدية كلها. قدم بيرغمان بعد ذلك عدة أفلام تلفزيونية، لكنها لم تكن أكثر من وسائل لتمضية الوقت في سنواته الأخيرة، إذ ظل هذا الفيلم هو الخاتمةَ الحقيقية لمسيرته السينمائية.
ذكر بيرغمان لاحقًا أنه قد وضع جزءًا من شخصيته أو جزءًا من حياته في مرحلةٍ ما، في كل شخصية من شخصيات الذكور في الفيلم. لذا فإننا نجد في ملحمة «فاني وأليكساندر» خلاصة مسيرته الطويلة من أفكاره وقلقه وهواجسه، تلك التي قَدَّمت للسينما من التحف ما يُلهِم أجيالًا من السينمائيين.
أليكساندر أمام مجسَّم المسرح الصغير من المشهد الافتتاحي للفيلم
يفتتح بيرغمان فيلمه هذا بمشهد شاعري آسر للطفل أليكساندر وهو ينظر من خلال مجسَّمٍ لمسرحٍ صغير، ويُحرِّك مجسمات الممثلين في المسرح بطريقةٍ توحي بتحكمه الكامل بالمشهد، وهو تعبيرٌ من بيرغمان عن الطفولة وخيالاتها والقدرة البالغة للأطفال على مزج الخيال بالواقع، تلك المهارة التي تتلاشى شيئًا فشيئًا كلما تقدمنا نحو البلوغ.
تنقسم النسخة التلفزيونية من ملحمة بيرغمان إلى خمس حلقات، غير أن القصة، من الناحية السردية، تبنى على ثلاث مراحل. يبدأ الثلث الأول منها بسلسلة طويلة من المشاهد، نرى فيها تحضيرات عائلة (إيكدال) لعشاء ليلة الميلاد، وندخل إلى قصر ربّة العائلة، جدّة فاني وأليكساندر (هيلينا إيكدال)، حيث تأخذنا كاميرا بيرغمان بين غرف القصر، وأثاثه الباذخ وجدرانه المُزينة باللوحات وزواياه التي لا تخلو من التماثيل والتحف.
خلال التحضيرات وأثناء الوليمة الفاخرة نتعرف على أفراد عائلة إيكدال المكونة من ثلاثة أخوة، يُمثل كلٌّ منهم جزءً من بيرغمان، حياته أو أفكاره، فنجد في (أوسكار) حبَّ بيرغمان وشغفه بالمسرح، وفي (غوستاف آدولف) مرحَه ومغامراته، وهو الجانب المخفي من شخصية المخرج، وأخيرًا في (كارل) الجانبَ المظلم لبيرغمان والطاغي على باقي أفلامه، جانب القلق الوجودي والمخاوف وشعور الخزي وجلد الذات.
أما أليكساندر وهو مركز القصة فيعطينا نظرةً على طفولة بيرغمان، أو ما احتفظت به ذاكرته عن شكل الطفولة وطبيعتها، حيث نرى معظم أحداث الفيلم من وجهة نظر أليكساندر وأخته فاني وكيف تؤثر الحياة عليهما، وكيف تتبلور شخصياتهما خلال مرحلةٍ مفصلية من الحياة. وهو ما يأخذنا إلى الجزء الثاني من القصة، الجزء الذي يُغير حياة الطفلين إلى الأبد، إذ ما من حدثٍ أكثر قدرة على ذلك من الموت؛ الهاجس الأول للوعي والمحرّك الأكبر لِمشاعرنا وأفكارنا ودَوافعنا.
ينقلنا بيرغمان إلى المرحلة التالية في حياة الطفلين عبر حدثٍ مفصليٍّ: لقاؤهما الأول مع الموت، إذ يدخل أوسكار، والد فاني وأليكساندر، في نوبةٍ مرضيةٍ شديدةٍ تؤدِّي إلى وفاته.
أوسكار إيكدال في نعشه
إن لقاءنا الأول بالموت يترك أثرًا عميقًا على النفس الإنسانية، فهو التذكير الأول لنا كبشر بهشاشة الوجود، واللقاء الذي يُحرك فينا شيئًا دفينًا أو يسرق شيئًا ما من أرواحنا. وهذا ما حدث للطفلين، إذ إن حياتهما بعده لن تعود كما كانت. يصور بيرغمان لقاء الطفلين بالموت من خلال مشهد رائع، إذ يستيقظ الطفلان من النوم بعد منتصف الليل على صوت صراخ أليم لأمهما إيميلي، ثم يتقدمان بخوف وخطوات بطيئة نحو مصدر الصوت، لِينظرا من خلال فتحة صغيرة عبر الباب إلى جثة الأب المستلقي في نعشه وأمهما تجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا وهي تصرخ باكية. عندها يعلم الطفلان أن لا فرق بين طفل أو بالغ أمام المجهول الأكبر والحتمي الوحيد، الموت.
ما يزيد الأمر صعوبة عليهما، بعد هذه الواقعة، هو قرار إيميلي بالزواج مرةً أخرى من كاهن مسيحي. وبمجرد انتقالهم للعيش معه تبدأ المرحلة الثانية من الفيلم، إذ يعمد بيرغمان إلى استبدال الشكل العام للفيلم، فيغير كل ما من شأنه تغيير المزاج العام للصورة، فتُستبدل الألوان البراقة في قصر إيكدال بألوان فاتحة وباهتة في بيت الكاهن، والديكورات الباذخة بأثاث رتيب، والشخصيات المرحة بأخرى جافة وحادة تكاد تخلو من الروح، والكادرات التصويرية الحركية والحيوية بكادرات ثابتة باردة أشبه بكادرات بيرغمان في ثلاثية صمت الإله.
هذه المرحلة من فاني وأليكساندر تعيدنا بالذاكرة إلى أفلام بيرغمان المألوفة، التي تعوّدنا عليها، بما تحمله من سوداوية وقلق وشك. هنا يبدأ بيرغمان بنقد السلطة الأبوية الدينية المتمثلة في شخصية الكاهن، زوج إيميلي، وهو الآخر مبني إلى حد ما على شخصية والد بيرغمان الحقيقي. تتفاجأ إيميلي بزوجها الجديد الذي يكشف عن وجهه الحقيقي يومًا بعد آخر، فينجرُّ إلى ممارسات لا تخلو من السادية والعنف، بحجة المحافظة على نظام عائلي رصين، وهو ما يدفع بإيميلي في النهاية إلى الهرب منه، ليموت بعدها حرقًا في حادثٍ مأساوي.
تعود إيميلي وأطفالها بعد ذلك إلى عائلة إيكدال، وتستأنف عملها في إدارة مسرح زوجها الأول. في المشهد الختامي لرائعة بيرغمان، تقترح إيميلي، والدة فاني وأليكساندر، على جدتهما وربّة عائلة إيكدال هيلينا أن تقرأ «مسرحية الحلم» للمسرحي السويدي أوغست ستريندبيرغ، وهي المسرحية التي قال عنها بيرغمان في وقتٍ سابق إنها من الأعمال التي تأثرت بها سينماه وأفكاره. وتعد مسرحية الحلم مفتاحًا أساسيًا لفهم الفيلم، حيث تجري أحداث المسرحية بمنطق الأحلام وسيلان تيار اللاوعي، وهي حالةٌ مشابهةٌ لما يحدث في «فاني وأليكساندر»، وفي سينما بيرغمان بصفة عامة، إذ لطالما تخللت الأحلام أفلام بيرغمان وكانت معظم سَردياته تجري في المنطقة الفاصلة بين الحقيقة والحلم أو الوعي واللاوعي أو العالم الطبيعي والميتافيزيقي. وربما يرجع ذلك إلى الأثر الكبير لفرويد على بيرغمان، فلم تخلُ أفلامه يومًا من الفرويدية بل كانت دائمًا إحدى ركائزها الرئيسية.
ذكر بيرغمان في إحدى المقابلات أنه كان يسجل أحلامه بشكل دائم، وأنه قد ضمَّن وصوَّر الكثيرَ منها في أفلامه. وعلى غرار فرويد، لم تكن الأحلام بالنسبة له مادةً فيلمية فحسب، بل كانت بابًا للدخول إلى أعمق نقطة في اللاوعي ومفتاحًا لفهم ذاته بكل مخاوفها وقلقها. ولأن السينما وسيطٌ مثاليٌّ لعرض الأحلام، ولأن الأفلام قابلةٌ للتشكُّل وفقَ منطقِ الحلم غير المحدود بقوانين الزمان والمكان، فقد كانت أفلامُ بيرغمان خيرَ الأمثلة على تجسيد تلك السردية وتلك المفاهيم، و«فاني وأليكساندر» ليس استثناءً، بل ربما يعدُّ أكثر تجارب بيرغمان اكتمالًا. وخلال ملحمته هذه نشعر بحالة تيار اللاوعي عند بيرغمان، إذ تتخلل الفيلمَ لحظاتٌ كثيرة من الخيال والأحلام والسحر، متجليةً في صور مختلفة: كتماثيل متحركة أو أشباح لِشخصيات راحلة أو خدع سحرية أو تنبؤات ورؤى، وهكذا يمضي بنا بيرغمان بين الحلم والواقع بكل سلاسة وعبقرية.
في المشهد الختامي للفيلم، تقرأ هيلينا مقطعًا من مسرحية الحلم يقول فيه ستريندبرغ: «كل شيء ممكن الحدوث. الزمان والمكان لا وجود لهما. تلتف المخيلة على طبقةٍ رقيقةٍ من الحقيقة لتنسج أنماطًا جديدة». وتختتم بذلك ملحمة بيرغمان العائلية التي يقف فيها بيرغمان متأملًا في سنواته الأخيرة بعد مسيرة طويلة من الشك والقلق والخوف وحياة حافلة بالشخصيات والذكريات. ربما يكون «فاني وأليكساندر» أكثر أفلامه ذاتية، حيث وضع فيه خلاصة إلهاماته الأدبية كستريندبرغ وشكسبير وديكنز، والفلسفية كفرويد وكيركجارد، ووضع فيه من سيرته الذاتية الكثير ومن أحلامه ما يتجاوز كل ذلك، لتكون النتيجة خمسَ ساعات ونصف من الكمال السينمائي الخالص.