فيلم سعودي آخر يناقش اختناق الذات الجمعية التي تعيش في الداخل بسبب القيود الدينية والاجتماعية والتنظيمية، التي كانت مسيطرة على الفضاء العام أثناء وقبل لحظة إنتاج الفيلم، أي سنة 2016.
ويظل السؤال البديهي مستمرًا، والذي طرحناه على عدد من الأفلام التي تناولت الماضي بغرض نقده اجتماعيًا، في محاولة لخلخلة مرتكزاته ومنطلقاته الفكرية، وقد تناول بعض هذه الأفلام الماضي بشكل لاذع وصادم، فيما تناوله بعضها بشكل كوميدي ساخر، وقليل منها تناوله بصورة فنية وسينمائية ناضجة، مثل فيلم «بركة يقابل بركة» الذي أخرجه وكتبه محمود صباغ، وسنحاول في هذا المقال إلقاء الضوء عليه.
إذا انطلقنا من تصور مبدئي يقول، إن لكل عمل فني سؤاله الموضوعي والفني، فالحتمي هو أن السؤال الفني هو الباقي، بينما السؤال الموضوعي قابل للتغير والتبدل، بحسب الظروف التاريخية اللاحقة لزمن الإنتاج، وهذا الأمر -إذا ما نظرنا إلى تاريخ السينما- هو السبب المركزي في بقاء جمالية كثير من الأعمال السينمائية، رغم زوال قيمة وأهمية موضوعها، بمعنى آخر، يمكن القول إن التقنيات الفنية هي الرهان الحقيقي الذي يمكن أن يراهن عليه منتج الأعمال الفنية.
وبناء على ذلك يمكن اعتبار أن القيمة الفنية هي إكسير الحياة بالنسبة إلى المنتج الفني، ولا تخرج السينما بوصفها جنسًا تعبيريًا من سلطة هذه المعادلة، وبقدر وعي الصانع بفلسفتها يكون مدى اهتمامه بأدواته الفنية، فقد يُحدث فيلم معين صدى نوعي آني بسبب حرارة موضوعه اجتماعيًا، لكنه سيتهاوى عبر الزمن بقدر برودة الموضوع وتقادمه، وهذا بالضبط ما حصل لكثير من الأفلام السعودية التي تناولت بشكل موضوعي قضايا لحظية، مثل موضوع التشدد الديني، أو وضع المرأة، أو أزمات الأحوال الشخصية، التي ما إن تصدر القرارات الرسمية بحلها النهائي، حتى تغيب قيمة العمل موضوعيًا، ويصبح -بوصفه موضوعًا- غير قابل للتداول، وهذا ما يفسر بقاء كثير من الأعمال السينمائية التي تتناول موضوعات أصيلة في التكوين البشري، مثل الحب مقابل الكراهية، والخير مقابل الشر، والعدل مقابل الظلم، والسلام مقابل الحرب، وقس على ذلك، بينما بقي عدد لا يُستهان به من الأفلام ذات الموضوعات المنتهية، ليس بسبب موضوعها بل بسبب أسلوبها وطريقة تناولها فنيًا.
وأعتقد أن فيلم «بركة يقابل بركة» قد تجاوز هذا الاختبار الحقيقي، بسبب وعي مخرج العمل، وقدراته الفنية، فقد استمتعتُ شخصيًا بالجمالية التي ظهر عليها الفيلم، رغم زوال الدافع الموضوعي اليوم، ولا مبرر لاستمتاعي بالفيلم سوى كون صورته -بوصفه عملًا سينمائيًا- كانت غنية ومشبعة، ما جعل من الموضوع بالنسبة لي أمرًا جانبيًا، وهذا ما دفعني للتساؤل عن منابت هذه الجمالية الفنية، التي جعلتني أكمل مشاهدة الفيلم، بل وأنجذب إلى تكويناته البصرية وأتفاعل معها على نحو إيجابي، في حالة من الانسجام والاستمتاع.
لعل أهم الإجابات التي توصلت إليها أثناء تأملي في هذا الأمر، هو التفاوت بين تكوين الحكاية الهشة والمتداعية، وطريقة التناول البصري لها، فالأبطال في حكاية الفيلم لم يكونوا الشخصيات، بل الموقف السينمائي الذي عبّر عنهم، فبركة (هشام فقيه) لديه في داخل حكاية الفيلم صورة فيلمية معينة، عبّر عنها شكل وجوده داخل الكادر لا داخل المجتمع، ولو تأملنا ذلك الأمر لانتبهنا للفرق الهائل بين البطل داخل الكادر السينمائي، والبطل داخل الحكاية الاجتماعية، فوجوده داخل الحكاية الاجتماعية يعتمد على منطقية الحكاية، ووجوده الفني داخل السينما يعتمد على جمالية ظهوره داخل الكادر، من صورة وجهه، طريقة حديثه، وتعبيراته الجسدية، والاقتصاد في نصه المنطوق، وهذا الأمر ينسحب كذلك على بيبي (فاطمة البنوي)، والدليل على صحة هذا التصور، هو مدى تخيلنا لسقوط قيمة العمل الفنية، أو تبدلها على الأقل، في حال تخيلنا الفيلم بشخصيات سينمائية أخرى.
وهذا التفاوت بين الحكاية والشخصيات الرئيسة، يتبعه بطبيعة الحال تفاوت بين الحكاية والشخصيات الثانوية، التي لعبت دورًا جماليًا مضافًا، ألقى بظلاله على الوجود الجمالي للشخصيات الرئيسة، وفسح المجال أمام تكوينها البصري داخل الكادر، مما جعل للشخصيات الثانوية حضورًا قيميًا على المستوى الفني، يكمن في تقديم إمكانية تعبير أوسع للشخصيات الرئيسة، وهذا الدور المحوري للشخصيات الثانوية قلما نجده متقنًا في الأعمال السينمائية المحلية، وهذا دليل آخر على نضج الفيلم فنيًا، ووضوح رؤية مخرجه البصرية لعمله البديع.
من الناحية الأخرى سنجد جمالية التعبير المكاني، التي لعبت دورًا مهمًا في جعل العمل يبدو في غاية الانسجام مع تنقلات الشخصيات داخله، فرغم ثبات الكاميرا أثناء تصوير معظم المشاهد، نلاحظ أن هناك حركة ديناميكية صنعها المكان من تلقاء نفسه، وهو بهذه الصورة ينقلنا إلى بُعد جمالي آخر، يمكن التعبير عنه بالجمال الفوتوغرافي، الذي ورغم ثباته بدا كأنه يعج بالحركة، ما جعل لكل صورة ثابتة داخل العمل جماليتها الخاصة إذا فصلناها عن الصور الأخرى، وهنا يمكن لنا أن نتأمل بُعدًا جماليًا مغايرًا، وهو حركة الشخصيات داخل الصورة الثابتة، التي جعلت من حركتهم محسوبة بدقة متناهية، ظهر من خلالها ما يمثل وجهة النظر الإخراجية، التي رفعت من قيمة العمل فنيًا وجعلته يتعالى على الموضوع، وجعلت الموضوع يفسح للصورة السينمائية أن تتحدث فنيًا، وهذا الحضور الفني هو الذي يعطي العمل -كما أسلفنا- صفة الديمومة وإمكانية البقاء عبر الزمن، رغم تداعي موضوع الفيلم وغياب قيمته الاجتماعية بداعي الزمن والتقادم.
كل ما سبق، يضاف إليه أمور أخرى أعطت الفيلم بعدًا فنيًا وجماليًا نوعيًا، منها استثمار الفيلم للأعمال الفنية لفنانين سعوديين، مثل أعمال الفنان أحمد ماطر، التي ظهرت في أكثر من كادر، والمقتنيات الفوتوغرافية العظيمة من أجيال سابقة، ومشاركة فرقة «ألوان»، التي تُعدّ من أهم الفرق الموسيقية في اللحظة الراهنة، والتي تقدم فنًا رصينًا ومغايرًا، كل ذلك يشير إلى وعي المخرج وبقية صناع الفيلم بضرورة تكوين عمل مكتمل بصريًا وصوتيًا، ويوضح أن العمل تم الاشتغال عليه ضمن رؤية فنية شاملة، تدعم فكرة ضرورة حضور الفن في الحياة اليومية، وهذا النوع من النظر إلى الفن بوصفه سبيلًا للخلاص في حد ذاته يدعم موضوع الفيلم، لا من ناحية الموضوع الثابت والجامد، بل من ناحية الموضوع الحيوي والمتجدد، وهذا بطبيعة الحال يُخرج الموضوعي من لحظته التاريخية الآنية أثناء إنتاجه، إلى أهمية الوجود الحقيقي والفاعل، بشكل قابل للاستمرار والحضور رغم التقادم.
وهكذا، من خلال الرغبة في التعبير عن الحالة الاجتماعية الخانقة، تم صناعة تحفة فنية فائقة في جماليتها، وبليغة في تعبيرها العكسي، بشكل يحيل القبح إلى جمال، والاختناق إلى رحابة، وكأن الفيلم حالة من الرغبة في أخذ النفس الطبيعي، في ظل المعوقات التي تحاول الكتم على الأنفاس، وقد نجح فيلم «بركة يقابل بركة» في صناعة هذه الحالة اللطيفة والمريحة، من خلال الوعي بقيمة الفن والجمال، واستثمار ممكناتهما المتاحة.