ليس بالفيلم السيء، رغم مخالفته التوقعات التي تمثلها الشخصية. كثرٌ ممن شاهدوا الفيلم كانوا ينتظرون اكتمال شخصية الجوكر بكل تجلياتها: العنف والجنون والجريمة التي قد تنفجر في غوثام، لكن «تود فيليبس» كان صادماً في هذا العمل، فهو يقدّم سيرةً مختلفةً للجوكر، سيرة ذاتية عما يمكن أن يكونه مصير الجوكر، فمنذ الجزء الأول حين أقصى بعض أبطال غوثام، وجعل البقية مجرد شخصيات عادية لا علاقة لها بتطور الأحداث، أي أن الصدمات التي يسببها الفيلم للمشاهد تبدأ بابتداع سيرة مختلفة ومغايرة عن الجوكر، صورة تسعى لتقديم الجوكر ونقيضه في ذات الوقت وكأنه يقول: ماذا لو أخذنا القصة في طريقٍ مختلف ونهاياتٍ مختلفة، فآرثر غير جديرٍ بالجوكر تماماً، إنه أقل من إمكانيات هذه الشخصية: قد يبدو عنيفاً وهذا واضحٌ في قتل راندال واللحظات التالية لفعل القتل هذا، لكنه في قتله موراي كان يمارس عنفاً مفاده الانتقام، والذي كان من المفترض أن يكون سياسياً أشبه بالبيان الذي يقدم فيه رؤيته عن المدينة وأحوالها، لكنه لم يفعل فقد ختم الأمر باعتباره مزحة حسب تعبيره، إنها مزحة ذاتية جداً أي فعل انتقامي محض، وهذا غير جديرٍ بالجوكر، حسناً لنقدم تفسيراً يليق بصاحب هذه المزحة الذاتية والمنتزعة من حياةٍ مهشمة كل ما ينقصها هو الاعتراف كما يدعي، غير أن ما ينقصها بشكلٍ أدق هو الحب وتجربة اللذة، يتضح هذا من خلال علاقته بهارلي، إن تفسيرات فيليبس لشخصية آرثر تقدمه عارياً أمام تجاربه كإنسان، فهي تسعى لهدم الجوكر كشخصٍ صنعته ظروفه فقط، دون هويةٍ وأفكار وإدراك لأبعاد ما فعله، فهو يحوّل الأشياء من حوله إلى أحداث شخصية بحتة، أحداث تتعلق به، ولا أحد سواه، فالعالم كله ينبع من تجربته الذاتية، تجربة العنف والإهمال والاستغلال والسخرية ولا شيء آخر، لا رؤيته لما يمكن أن يحدث لغوثام، إنه الصورة المضادة تماماً عن المشهد الختامي للجزء الأول، كما لو أن فيليبس أصابته صحوة ضمير، فأراد من خلال عمله هذا تدمير ما حاول صناعته –في حال اكتفى بهذا الجزء من السلسلة-. أقول أنه ليس بالفيلم السيء حيث يبدو كإعلان توبة من خلال الحب.
فالحب وحده من يجيء بالتوازن لآرثر ويقصي أثر المحيط عليه، فهو يعيش ما لم يعشه سابقاً، فالحب يأتيه -أو هكذا يظنه- عارياً تماماً، إنها اللحظة التي يجد فيها ما يشبهه وما يتطابق مع محيطه الخاص، حتى أن أغنية «ستيفي وندر» بصوت خواكين البشع هي بداية وهمٍ آخر في حياته، حيث يتم توظيف هذه البشاعة كشكلٍ من الأمان والراحة لم يشعر بهما قبلاً، فهو يعيش حالةً حلميةً ينزوي على إثرها كل ماضيه. يتم تتويج هذا الشكل الصافي من الحب الذي لم يدرك سواه حتى الآن من خلال مخاتلة النظام نفسه، فيكتمل من خلال العلاقة الجنسية الأولى له، إذ تشكل هذه العلاقة بشكلها الحسي دليلاً على حقيقة شعوره بينما هي تغذيةٌ لمخيلة هارلي، فهي لا تريد آرثر قدر رغبتها بالجوكر، فهما في تلك اللحظة على نقيض بعضهما، فهي ومن خلال الميك آب تتغذى على ما تريده من آرثر، وهو الوصول إلى الجوكر، بينما يفقد هو إحساسه بالعالم من حوله، فتفقد الأشياء من حوله وزنها وحضورها، وحده شعور النشوة الأولى ما يظل حياً في روحه، فيفقده عذابه الذاتي بانزواء ذاكرته وحاضره. إنه الانتقال من لحظته التعيسة إلى قول «وولي سوينكا»: "أنا الحقيبة الملأى في مهب الريح، أركب العشب العالي حين كان هاجعاً في مطار واري"، فتمثل هذه اللحظة ذروة اكتمال الوهم في حياته، فيغدو بين مفترقين الأول سعيه لتحطيم صورة الجوكر التي نمت نتيجة السخرية والاحتقار إلخ، والأخرى هارلي وجبلها الموهوم، فهي لم تدرك أو لم تهتم لاحتياجه البدائي للحب، فقد كانت قصتها المتخيلة ولحظة جسدها طريقتها البائسة نحو ذروة جنونه.
يسعى آرثر من خلال هذا الحب إلى السيطرة على شخصية الجوكر وتدميرها، فكل ما يفعله بعد هذه اللحظة هو السعي وراء هذا الحب، إنه يدمر شخصية الجوكر لا من خلال تبرير القتل بل الاعتراف بقسوة الأشياء من حوله، فهو ينتقم من هذا العالم. إذ يمثل آرثر حالة انتقام دائمة يصنعها المحيط، الانتقام ممن يحبه وممن يكرهه واستغله، راندال وموراي هما ليسا ضحية الجوكر إنما الوسيلة أو العتبة التي صعد عليها آرثر إلى الجوكر بينما هارلي هي العتبة التي نزل عليها إلى آرثر. إنه حالة مستمرة من الغضب والكراهية والانتقام ثم الحب فاليأس، حالة لا نهائية من تدوير مشاعر تصنعه وتدمره، يتجلى هذا الفعل في اللقاء التلفزيوني، فكل ما يريده النجاة من ماضيه للوصول إلى هارلي، فهي تمثل بوابة الخروج من الجوكر وآركام والذاكرة، غير أنه صنيعة النظام وضحيته الأثيرة في ذات الوقت، فاللحظة التي يخال نفسه نجا من سطوة الماضي يفاجئه المذيع بادي بحضور هذا الماضي، تماماً كما هو حال هارفي دينت في المحاكمة، ورغم أنه في مشهد المقابلة يعيد ذات المبررات قبيل قتل موراي، يسعى في مخيلته للانتقام من هارفي، فالانتقام وإن كان شكلاً عارياً للعنف غايته الوحيدة تفريغ الغضب أو تحقيق العدالة حسب ادعاء المنتقم، إلا أنه هنا عنفٌ لا يهدف للعدالة بل يتجاوزها لمكانٍ ما في الحياة دون سخرية وتعذيب، إنه أقرب إلى إفراغ الذاكرة من عبء لحظة السخرية القادمة، غير أن هذا الشكل من فعل الانتقام يجعله أمثولةً جماعيةً، يحقق من خلالها الآخرون الخلاص، إنه السعي نحو النشوة التي عاشها لحظة صبغت هارلي شفتيها بدم دينت، كما أنه لحظة الحطام حين يتخلص من محاميته، ويبدأ صراعه الأخير ضد النظام، فهو يسعى إلى إعادة تأسيس ما صنعه من جديد، لكنه لم يكن مجنوناً كفاية كما هو حال قاتله، إنه مجرد فاقدٍ للحب، فاقدٍ للاعتراف بوجوده، فمع بداية هذا الصراع فيما تلى مرافعته الأولى ضد خضوعه للتعذيب وتعرضه للسخرية، حتى في أركام يخسر معركته الوحيدة.
إن مؤدى هذه الخسارة هي تعريته لفعل القتل باعتباره قتلاً محضاً، خالٍ حتى من الانتقام، مجرد جريمةٍ بشعة، وبذا يفقد مثاله أمام الجميع، ويعيد للنظام حضوره وسطوته، إنه يحبس أنفاس الجميع ويعيدهم إلى المكان الأول، إلى نكراتٍ في حياته، فكل ما فعله باعترافه نقضه لذاته، وتدمير الصورة المقدسة المبنية على فعل القتل والمزحة العلنية التي بدت كهجاءٍ سافرٍ ضد النظام، لكن هذا التدمير الذي يؤدي إلى التخلص من كل الأعباء السابقة يحمله عبئاً جديداً ظن الحب كفيلاً بحمله معه، إنها اللحظة التي آمن فيها بالخلاص في سبيل الحب وفيها يكتمل تدمير الجوكر، وتكتمل فيها خسارته، فآرثر أسير الوهم الذي يتجلى في المشاهد الغنائية، وهم الحب والخلاص من خلاله، فصوته البشع والرقصات توحي بإيمانه بفكرة الحب، غير أن الشك قرين الحب في هذه المشاهد، فظهوره كالجوكر لا آرثر فليك يعني أن وهمه الخاص لا يكتمل دون وهمٍ آخر لدى هارلي، فهو يدرك ما تعيشه هي ويتعاطى معه، يجاري حبها للجوكر لا آرثر، ويحاول أن يمزج بين الشخصيتين كما تحاول هي أن ينتقل من وهم الحب المتمثل بأمه إلى الوهم المتمثل بها، ومع انكسار هذا الوهم بتعرية آرثر من خلال الجوكر نقض ذاته تماماً. يبدأ هذا النقض مع شهادة غاري والحديث بينهما، فآرثر في هذا الجزء يعيد تأسيس النظام الذي صنعه، والذي أريد منه تدميره في الجزء الأول دون قصد، إنه ينتقل من المزحة قرينة القتل إلى تفاهة المهرج، التفاهة التي يعلن فيها انهياره، ويرى الآخرون فيها استكمالاً لصوت الطلقة، فلم يكن مجنوناً كفاية كي يدمر النظام كما سيفعل قاتله، فهو مجرد باحثٍ عن الحب والاعتراف بوجوده فقط.