هناك أفلام سينمائية تختار مشاهدها من الوهلة الأولى (المشهد الأول)؛ فيلم "أغنية الغراب" لمحمد السلمان يعلن منذ البداية انتماءه لهذا النوع من الأفلام، وسواء أسمّيناه فيلمًا بديلًا أم مستقلًا – من حيث التناول الفني لا الإنتاج – أم تجريبيًا، فهناك عَقد ضمني أساسي وضروري بين صانع الفيلم والمتلقي، قد تذهب قيمة العمل وأهميته في حال أخلّ أحد الطرفين بمضمون هذا العقد، ومشكلة هذا العقد الكبرى تكمن في هشاشته وتداعيه وعدم التصريح به رغم أهميته، لذلك كلما ازدادت التعقيدات الفنية في الفيلم، ازدادت معها تعقيدات بنود هذا العقد على وعي المتلقي، ما يجعل العلاقة بين العمل والمتلقي مشدودة ومتوترة للغاية، حيث أنه في أي لحظة قد يتخلى المتلقي عن العمل وينصرف عنه، وهنا تكمن خطورة هذا النوع من الأفلام، وقيمتها أيضًا.
يوجد دائمًا وأبدًا نوعان من التلقي للأعمال الفنية: تلقٍّ مباشر وسطحي يقوم على فكرة السبب والمسبب، أو العلة والمعلول، وفي العادة ينحو هذا النوع من التلقي نحو الرغبة في التفسير، من أجل الوصول إلى المعنى؛ وتلقٍّ آخر قيمي ونوعي، يقترح أشكالًا وطرائقَ فلسفية للفهم والتواصل مع الأعمال الفنية. يميل أفق هذا الشكل من التلقي الواعي إلى المشاركة والتفاعل الإيجابي، وصولًا إلى خطاب العمل الفني لا معناه، وهو نوع يحتاج بالضرورة إلى الكفاية النقدية، والمعرفة، وتعدد القراءات والمشاهدات، والذي يبدو لي من خلال خطاب فيلم "أغنية الغراب" أنه وضَع المتلقي الثاني – منذ مشهد سقوط مطر العقول – في حساباته وذهنيته أثناء العمل على صناعة الفيلم، وهذا الفعل يعد مغامرة شجاعة من المخرج محمد السلمان، ففيه تضحية صارخة بالمتلقي الأول، الذي يمثل السواد الأعظم من شرائح التلقي المتوقعة، على الصعيد المحلي والخارجي.
وإذا ما ذهبنا نبحث عن العلامات والدلالات الفنية التي تجعل من الفيلم ينتمي إلى ذلك النوع من الأفلام التي وصفناها آنفًا، يمكننا أن نلاحظ في البداية أهمية ودلالات عتبات العمل الفني، من اسم الفيلم أو عنوانه، إلى المفارقة في البوستر، التي تبرز الحمامة البيضاء في الصورة عوضًا عن الغراب في العنوان، المفارقة التي نجد لها حضورًا هامًا في مكونات وثيمات العمل – «أهلًا بكم في فندق الحمامة» – وأبو صقر مربي الحمام، وبطل الفيلم ناصر غراب، الذي يبدو عليه الميل إلى طباع الحمامة المسالمة، إذا لم نقل البلهاء، وإن كان اسمه يحيل إلى السواد (غراب)، وصولًا إلى الفتاة التي تلبس البياض وتظهر في تضاعيف الفيلم كدلالة على بياض الحمام، والتي يتضح في نهاية الفيلم أن اسمها هديل أيضًا. الملاحظ هنا أن المفارقة في الفيلم تمثل قيمة تعاقدية لا يمكن التخلي عنها في سبيل تواصلنا مع الفيلم بالشكل الأمثل.
إن التواصل لا التفسير هو ما يعلي قيمة هذا الفيلم البديل، الذي لا أستطيع ولا أرتاح إلى فكرة تقييمه أو التوصية به لأحد، ربما لأنه يستطيع بنفسه، ومن خلال أدواته الفنية بالغة التعقيد أن يجد متلقيه، الذي يجب أن تتوافر فيه – كما ذكرنا – الكفاية النقدية، وهذا ليس تعاليًا على المتلقي التفسيري، بل محاولة لسحبه إلى المنطقة التواصلية، التي ترفض سهولة الفهم والتفسير، وبالمقابل تُعلي من قيمة فعل التواصل، فمشهد عبقري واحد – ربما – مثل ركل العقل من قبل طبيب الأورام، قد يسبب لفعل التلقي الواعي، والقائم على قيمة التواصل، الصدمة المطلوبة أو المنشودة من قبل صانعي هذا النوع من الأعمال الفنية، والمتابع للسينما العالمية سيلاحظ أنها بدأت مؤخرًا تخوض مغامرات من هذا النوع الغارق في الفنية، ولعل هذا عائد إلى تبدل وتغير وعي المتلقي العادي وثقافته، حيث أنه بدأ يضع في حساباته فكرة التنويع في مشاهداته، وإن لم تكن قد تحولت إلى ظاهرة يمكن الركون إلى نتائجها، لكنها تظل ملاحظة تستحق التأمل.
يتأرجح – في العادة – الفيلم التجريبي بين الثنائيات البنيوية، التي لابد للمتلقي أن يتنبه إليها، فيما لو أراد أو حاول على الأقل التواصل مع العمل الفني، فبين القبح والجمال، والجد والهزل، والوعي واللاوعي، وغير ذلك من الثنائيات، يمكن أن تبرز قيمة العمل التجريبي وأهميته، وهذا الأمر قد يوهم بالعبثية واللاجدوى وغياب المعنى، لكنه في الحقيقة غير ذلك تمامًا؛ لذلك يُفضل إزاحة فكرة المعنى وإبعادها، وتبديلها بفكرة الخطاب، فالخطاب يُبرز بالضرورة المستويات العميقة للعمل، مثل المستوى الفلسفي والسياسي والتاريخي والإيديولوجي، وفيلم "أغنية الغراب" لا يُغفل مكونات هذه الثنائيات، بل يهتم بها، ويذهب بها بعيدًا باتجاه العمق، فمثلًا يذهب إلى تهويم التفاعلات الإنسانية مع الواقع، ما يجعلنا نفترض الحالة الحُلمية لجميع الأحداث، أو من ناحية اللعب في مركزية الحكاية، ما يُصعّب علينا تحويل العمل إلى حكاية يمكن سردها في عدة سطور، ففي فيلم كهذا يمكن لكل متلقٍ أن يخرج بحكايته الخاصة من مادة الفيلم، وهذا الملمح من أهم ملامح فيلم "أغنية الغراب" وأهم مكوناته الفنية والجمالية، وهو الملمح الذي يجعل من السينما صناعة في الأساس، وقد نجح مخرج الفيلم من هذه الناحية أيما نجاح، مع الأخذ في عين الاعتبار ميله وانزياحه ناحية التطرف، ما جعل بعض المشاهد تبدو كأنها مشاهد استعراضية، لا هدف لها غير الرغبة في الاستعراض، وهي وإن كانت ضمن سياق الفيلم العام مقبولة، فإن الاستغناء عنها لم يكن ليضعف من قيمة الفيلم على المستوى التجريبي، ومنها مشهد المحاكمة الثقافية داخل الفان، وحديث أبو صقر المتكرر عن أهمية اللحن في الشعر الذي سيغنّيه، أو رغبته في أغنية تكون مكتوبة له وتشبهه، فالتكرار قيمة فنية شديدة الحساسية، لا يمكن التعاطي معها بهذا الشكل الذي ظهر من خلال الفيلم.
أخيرًا، أود لفت الانتباه إلى موضوع له علاقة بالفيلم السعودي بشكل عام، وبفيلم "أغنية الغراب" بشكل خاص، وهو موضوع يشغلني شخصيًا منذ فترة طويلة، ولعلي أقدمه هنا كتساؤل: هل هناك ضرورة ملحة لتقديم الفيلم السعودي كفيلم بديل؟ بمعنى أن هناك مقومات كثيرة لها علاقة بتاريخ السعودية كبلد مع السينما كفن وصناعة وقوة ناعمة، جعلت من الفيلم السعودي فيلمًا بديلًا بالضرورة، فكما هو معلوم أن الفيلم البديل هو فيلم الظروف الغريبة أو الاستثنائية على الأقل، وهذا متحقق في ظرف السينما السعودية، التي يلتفت إليها المهتمون بالسينما في الخارج، يتابعون أخبارها وصيرورتها من هذه الناحية.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار نشأة معظم المشتغلين في حقل السينما السعودية، سنجدهم من المثقفين، بمعنى أنهم يريدون الدخول إلى عالم السينما من هذا الباب تحديدًا، بل ويصرون عليه، سواء على المستوى الرسمي أم الإبداعي والفني، واختيار الفيلم الذي نتحدث عنه هنا لتمثيل المملكة العربية السعودية في جائزة الأوسكار 2023 أكبر دليل على ذلك التوجه. هنا أتساءل هل بات مصير السينما السعودية مرتبطًا ارتباطًا مصيريًا بهذا الأفق الفني؟ ومع أنني لا أجد غضاضة في ذلك، إلا أنني أشكك في جدوى هذا التوجه، أو جدوى الاكتفاء به وحده، فهناك مستويات فنية عديدة للفن السابع من المحتمل أن تحقق الأهداف والتطلعات التي يطمح إليها المسؤولون عن إدارة شأن السينما في البلد، وأتمنى أن يكون لها نفس الحظ والفرصة في التنافس والحضور والدعم. هناك على سبيل المثال السينما التي تعكس قصتنا الحضارية، أو تاريخنا الشعبي، أو مكوننا الجغرافي المتنوع، أو حتى الصراع الوجودي بين مكونات المجتمع إثر التغيرات المتلاحقة والسريعة، وهناك حتمًا مستويات لا حصر لها يمكنها أن تأخذ حظها الطبيعي في التمثيل الدولي، وإن بدا عليها الشكل التجاري، والمثال على ذلك فيلم "الهمور ح ع" للمخرج عبدالإله القرشي الذي نجح في شباك التذاكر محليًا، وأخذ حظًا لا بأس به من القبول أثناء عرضه في مصر. لذلك أتساءل: ألا يعتبر هذا القبول مؤشرًا على أهمية التنويع وضرورته، والدفاع عن طبيعية وجود الفيلم السعودي، وتجاوز فكرة خصوصيته؟ إنه مجرد تساؤل، وأعتقد أنه يستحق التأمل.