حققت السينما القطرية في السنوات الأخيرة قفزةً نوعيةً مكَّنتها من الوصول إلى مختلف المهرجانات العالمية، وذلك من خلال رؤيةٍ طموحة ودعمٍ مؤسسي متكامل. وعلى رأس هذه المؤسسات الرائدة نجد مؤسسة الدوحة للأفلام، التي أعادت رسم المشهد السينمائي القطري ورفعته إلى مستوى عالمي من الحضور، حيث قدَّمت الدعم لأكثر من 850 فيلما من 75 دولة. وقد توِّجت هذه الأفلام بترشيحات سينمائية في العديد من المهرجانات وحظيت بعدد من الجوائز العالمية.
وإلى جانب حرصها على دعم المواهب والسرديات والقصص الأصيلة من مختلف الدول العربية، فإنها أوْلَت عناية خاصة بالإنتاج المحلي، عبر دعم وتمكين جيل جديد من المواهب الشابة التي نجحت في تقديم قصص أصيلة مستلهمة من البيئة والثقافة المحلية الثرية. وقد هدفت من خلال ذلك إلى تقديم صورة مختلفة للإنسان العربي المسلم، وإلى الترويج للثقافة المحلية في المحافل العالمية.
ومن بين هؤلاء المبدعين يبرز عبد الرحمن المانع، أحد المخرجين القطريين الشباب الذين استطاعوا، منذ أفلامهم الأولى، لفت الأنظار والظفر بجوائز مرموقة. فقد عرضت أفلامه في مهرجانات عالمية، مثل مهرجان دبي السينمائي، ومهرجان مانشستر السينمائي، إلى جانب المهرجان الدولي للسينما في السويد الذي توج فيها بجائزة أفضل مخرج آسيوي مع تكريم خاص عن فيلمه «الالتزام فعل وليس كلمة»، كما اختير، في مهرجان أثينا السينمائي باليونان، ضمن أفضل ثلاثة مخرجين مع تنويه شرفي، من بين 400 مشروع ومخرج حول العالم. ويعد هذا الإنجاز من أوائل الإنجازات العربية في هذا السياق. وقد عكست أفلامه اهتماما كبيرا بالثقافة المحلية، وبالبعد التوعوي.
في فيلمه الأخير «الصانع: رحلة البشت»، يتخذ المانع من الثقافة المحلية مادةً لسردِه، مقدمًا قصة ملهمة تستكشف العلاقة الوثيقة التي تجمع الإنسان بالثقافة. حيث يتتبع الفيلم رحلة شاب أمريكي يقوده حرفيَّان قطريان لتعلم فن صناعة البشت. ومن خلال هذه الرحلة الشيقة، يستكشف الفيلم الصلةَ العميقة التي تربط التقاليد والحرف المحلية بالهوية. وقد حظي الفيلم بدعم محلي واسع، كما نال منحة مرموقة من مؤسسة الدوحة للأفلام، تأكيدًا لقيمته الثقافية والفنية.
حلَّ عبد الرحمن المانع ضيفًا على «ميم»، في حوار تطرق فيه إلى مسيرته الفنية وأعماله، وصولًا إلى أحدث أفلامه «الصانع: رحلة البشت».
تلقيت دراستك في جامعة كيل في لندن، حيث تعلمت إخراج الأفلام وأحطت بخبايا هذا المجال، وقد كانت فرصةً قرّبتك من الوسط السينمائي البريطاني، فكيف ساهمت تجربتك في تشكيل أسلوبك الإخراجي، وما الذي أضافته لك على المستوى الفني والإخراجي إلى جانب تعزيز نظرتك الجمالية؟
كانت دراستي الجامعية بالمملكة المتحدة نقطةَ تحوّل في مسيرتي كمخرج. فخلال سنوات الدراسة في تخصص صناعة وإخراج الأفلام، اكتسبت معرفةً عميقةً بخبايا هذا المجال، من كتابة السيناريو وإدارة الممثلين إلى التصوير السينمائي، وصولًا إلى مرحلة ما بعد الإنتاج.
وقد منحني الاحتكاك المباشر بالوسط السينمائي البريطاني منظورًا عالميًا وأتاح لي فرصة التعرف على مدارس وأساليب إخراج مختلفة، وهو ما وسّع آفاقي الفنية وساعدني على تطوير أسلوبي الإخراجي الخاص. إلى جانب ذلك، ساهمت التجربة في تعزيز رؤيتي الجمالية وإدراك أهمية التفاصيل الصغيرة في بناء صورة بصرية قوية قادرة على ملامسة مشاعر الجمهور ونقل رسالة عميقة.
بالمحصلة، كانت تلك التجربة بوابتي لفهم أن السينما ليست مجرد صناعة، بل فن وثقافة ورسالة، وهذا ما أحاول ترجمته اليوم في أعمالي ومشاريعي.
جاءت أفلامك انعكاسًا لعدد من القيم والملامح الثقافية، مقدمةً رؤية فنية تمزج بين الحياة المعاشة والبعد الأخلاقي والجمالي. ما أهمية الثقافة المحلية في مسِيرتك الإخراجية وكيف ساهمت في رسم معالم هذا الأسلوب الذي نلمحه في أفلامك؟
الثقافة المحلية هي الأساس في مسيرتي الإخراجية، فهي تمنحني الإلهام والهوية وتشكل روح القصص التي أقدمها. أستمد أفكاري من البيئة القطرية وتفاصيلها، كما أن كثرة أسفاري منحتني الفرصة لاكتشاف ثقافات مختلفة، وهذا ما يفتح أمامي آفاقًا أوسع ويمنحني قدرًا كبيرًا من الإلهام وأفكارًا جديدة أدمجها مع رؤية فنية معاصرة تعكس قيمنا وموروثنا الثقافي، ويهمّني جدًا أن تصل هذه التجارب إلى جمهور عالمي من خلال رؤية مواطن قطري طموح يسعى لنقل قصص بلده إلى العالم.
لقد نجح عدد من أفلامك في لفت الأنظار في مهرجانات سينمائية عالمية، مثل فيلم «الالتزام فعل وليس كلمة»، فكيف كان تلقي أفلامك من طرف أعين النقاد الأوروبيين والجمهور الغربي، الذي كان بصدد اكتشاف هذه الثقافة المتفردة والتعرف على ملامح هذه البيئة المحلية ربما لأول مرة؟ وهل ترى المخرج سفيرًا لثقافته المحلية؟
تجربتي مع المهرجانات العالمية كانت محطة مهمة في مسيرتي، خصوصًا في تشريف ورفع علم دولتنا الحبيبة قطر في هذه المحافل الدولية. من خلال فيلم «الالتزام فعل وليس كلمة»، كان استقبال النقاد الأوروبيين والجمهور الغربي مميزًا، حيث أعجبوا بالتفاصيل الثقافية والقصص التي تعكس الهوية القطرية والبيئة المحلية، والتي يكتشفها الكثير منهم لأول مرة.
أؤمن أن المخرج سفير لثقافته، والسينما هي الوسيلة الأهم لنقل هويتنا وتراثنا للعالم. لذلك أحرص في كل أعمالي على أن تحمل أفلامي رسائلَ صادقة تعبر عن قيمنا وتقاليدنا، وفي الوقت نفسه تتواصل مع جمهورٍ عالمي باختلاف ثقافاته وخلفياته.
تشير في الكثير من المقابلات إلى أنك اعتمدت على دراسة من المعهد الوطني للصحة في بناء فكرة الفيلم، فما الاختلاف الذي تراه بين الفيلم الذي يُبنى على دراسة علمية ذات بعد صحي مثلا، وغيره من الأفلام؟ وكيف يُكسِب هذا التوجهُ الأفلامَ القدرةَ على إحداث التغيير على مستوى المجتمع، دون أن تفقد بعدها الفني؟
الاعتماد على دراسة من المعهد الوطني للصحة كان خطوة أساسية في بناء فكرة الفيلم، لأنه منحنا مصداقية أكبر ورسالة أعمق. عندما يُبنى الفيلم على أساس علمي مدعوم ببيانات ودراسات، يكون أكثر قدرة على إحداث تأثير حقيقي في وعي المشاهد وسلوكه.
وهذه المهارة في البحث عن الدراسات العلمية وتوظيفها داخل العمل الفني اكتسبتها خلال دراستي الجامعية في بريطانيا، حيث تعلمت كيف أدمج بين البعد المعرفي والرؤية الفنية لصناعة أفلام قادرة على التأثير المجتمعي. بالنسبة لي، السينما ليست فقط وسيلة للترفيه، بل هي أداة لصناعة التغيير وإحداث أثر إيجابي على المجتمع.
في آخر أفلامك القصيرة «الصانع: رحلة البشت»، الذي تتولى إخراجه وإنتاجه إلى جانب مشاركتك في كتابة نصه، تقدم معالجةً مختلفةً ترتكز على الثقافة المحلية من منظورٍ أجنبي، حيث يخوض شاب أمريكي رحلة استكشاف ثقافية، فما هي رسالة الفيلم وكيف تبلورت فكرته؟ وما هي أبرز التحديات التي واجهتها أثناء إخراجك له؟
فكرة فيلم «الصانع: رحلة البشت» جاءت من رغبتي في تقديم الثقافة القطرية من منظور مختلف، عبر عين شاب أمريكي يخوض رحلة لاكتشاف حرفية صناعة البشت وقيمته التاريخية والثقافية في قطر. رسالة الفيلم هي تعريف العالم بجمال تراثنا وإبراز العلاقة العميقة بين الهوية القطرية والحرف اليدوية التي تعكس أصالة المجتمع وروحه.
حصل الفيلم على منحة من مؤسسة الدوحة للأفلام (DFI) ويحظى بدعم مجتمع الأفلام القطري (QtrFilm)، مما يعكس أهميته الثقافية والاعتراف المتزايد بـ السينما القطرية على الساحة العالمية. وهو من إنتاج مشترك مع استوديوهات المانع للإنتاج السينمائي، أول استوديو قطري متخصص في تطوير وصناعة الأفلام المستقلة، وشريك استراتيجي لـ المدينة الاعلامية قطر وجزء من برنامج SCALE7 لتسريع الأعمال التابع لـ بنك قطر للتنمية (QDB).
كيف تصف رحلتك في صناعة الأفلام، بدءً من الفكرة، وصولا إلى مرحلة الإنتاج، وماهي أبرز الصعوبات التي يواجهها مخرج الفيلم المحلي في مشواره السينمائي؟
رحلتي في صناعة الأفلام تبدأ دائمًا من الفكرة، وأحيانًا من تجارب شخصية أمرّ بها تلهمني في بناء القصة، ثم ننتقل إلى تطوير الأحداث وكتابة السيناريو، تليها مرحلة التحضير والإعداد التي تشمل اختيار مواقع التصوير وفريق العمل والممثلين، وبعد ذلك نبدأ التصوير بكل تفاصيله، وصولًا إلى مرحلة ما بعد الإنتاج التي يتم فيها المونتاج والتصميم الصوتي وتصحيح الألوان لصناعة تجربة بصرية متكاملة. أما أبرز الصعوبات التي يواجهها المخرج المحلي فتتمثل في تأمين التمويل للمشاريع المستقلة والحصول على التصاريح اللازمة وموافقات التصوير في بعض المواقع، إلى جانب قلة الكوادر المتخصصة في بعض المجالات الفنية المحلية، إضافة إلى صعوبة الوصول إلى منصات التوزيع العالمية لعرض الأفلام على نطاق أوسع. ومع ذلك أصبح الطريق اليوم أكثر سهولة بفضل دعم الجهات المحلية مثل مؤسسة الدوحة للأفلام والمدينة الإعلامية قطر ومجتمع الأفلام القطري وVisit Qatar إلى جانب المبادرات الحكومية مثل "رؤية قطر 2030" التي تسعى إلى جعل قطر وجهة سينمائية عالمية.
ما الرسالة التي توجهها إلى صنّاع الأفلام الذين يشقون طريقهم لأول مرة في مجال الإخراج، وما القيمة التي ينبغي أن يتحلى بها صانع الفيلم الناجح؟
صناعة الأفلام هي بطبيعتها عمل جماعي يعتمد على جهود فريق متنوع من الأفراد في مراحل مختلفة من المشروع، ولهذا فإن أهم نصيحتي هي بناء فريق قوي ومتماسك يؤمن بالرؤية نفسها. لا يمكن لشخص واحد أن يصنع فيلمًا بمفرده، فكلما كان الفريق أكثر انسجامًا وتعاونًا، كانت النتائج أفضل وأقوى.
كيف ترى مستقبل صناعة الأفلام في قطر، وما هو التغيير الذي تتوق لأن تراه في الوسط السينمائي المحلي؟
أرى أن مستقبل صناعة الأفلام في قطر في تطور كبير، خصوصًا مع الدعم الكبير الذي تقدمه الدولة من خلال رؤية قطر 2030 لتعزيز الصناعات الإبداعية وبناء اقتصاد معرفي. اليوم نشهد تطورًا ملحوظًا في البنية التحتية السينمائية من خلال الاستوديوهات المتقدمة والمبادرات الثقافية والمهرجانات السينمائية المهمة مثل مهرجان لوسيل السينمائي الدولي و مؤسسة الدوحة للأفلام، مهرجان الدوحة السينمائي، مهرجان أجيال وقمرة، وكلها تسهم في دعم صنّاع الأفلام المحليين وتوفير فرص للتدريب والتطوير والانتشار.
أما التغيير الذي أتطلع لرؤيته فهو زيادة حجم الإنتاجات السينمائية المحلية، وفتح آفاق أوسع للوصول إلى المنصات العالمية حتى تصل أفلامنا إلى جمهور أوسع. كما أتمنى تعزيز التعاون بين صناع الأفلام المحليين والدوليين، بما يجعل قطر وجهة رئيسية لصناعة السينما في المنطقة وحاضرة بقوة على الخريطة السينمائية العالمية.