400 ضربةٍ على خد الحياة… 400 قبلةٍ على خدِّ السينما

«السينما صورةٌ محسَّنة للحياة البائسة، لكن هل هي فعلًا أهم من الحياة ومتاعبها؟ لطالما حلمتُ بدخولِ ذلك العالم والانغماس في ملذَّاته. الأفلام التي أريد صناعتها هي ما كنت سأشاهده لو لم أكن مخرجًا أو كاتبًا، هي التي سأهرب من المدرسة لمتابعتها. يومًا ما، سأصنع ذلك الفيلم الذي سيتحدث عنه النقاد لأجيال… ولكن عندما أملك مالًا لأضيعه» - فرانسوا تروفو

أحدثت الموجة الفرنسيَّة السينمائيَّة، التي استمرت من أواخر الخمسينيَّات حتى ستينيَّات من القرن الماضي، تغييرًا ملحوظًا في السينما وصناعتها، بل وأسهمت في ولادة عباقرة في عالم السينما من مخرجين وكُتَّاب وممثَّلين، لعل أبرزهم: جان لوك غودار، كلود شابرول، إيريك رومِر، وفرانسوا تروفو. وبالحديث عن الأخير، نقف أمام واحدةٍ من أهمِّ محطَّات تلك الموجة وأكثرها تأثيرًا، ألا وهي تحفته الخالدة «الأربعمئة ضربة» (The 400 Blows - 1959).

عام 1959، وهو في عامه السابع والعشرين، كتب فرانسوا تروفو، الشاب الفرنسي الحالم والطموح، وأخرج أول أفلامه تحت عنوان «الأربعمئة ضربة». يروي الفيلم قصة أنطوان، طفلٌ فرنسيٌّ مشاغبٌ يسعى لإثبات استقلاليَّته ضمن عالمه وبيئته الخاصة المكوَّنة من والديه وزملائه في الفصل. نظرته إلى الحياة تتمحورُ حول فكرة الاستقلال والرفض لأن يُنظر إليه كطفلٍ مشاغبٍ بدافع الفضول. كان مولعًا بأدبِ بالزاك، يفهمه ويقدِّره رغم حداثة سنِّه، وهو شغفٌ يعكس بوضوحٍ شخصيَّة تروفو نفسه. فالمخرج الذي لطالما استحضر بالزاك في أعماله اللاحقة - سواء عبر الأطروحات الفلسفيَّة أو الإشارات في مقابلاته الصحفيَّة - يجعلُ من هذا الفيلم على الأرجح سيرةً ذاتيَّةً لمرحلة طفولته، أو على الأقل مرآةً لجزءٍ منها.

يُفتَتح الفيلم بزوايا تصويرٍ منخفضةٍ تُظهر المباني الباريسيَّة الشاعريَّة وبرج إيفل في الخلفيَّة، وكأنَّنا نرى العالم من وجهة نظر طفل. ترافق هذه الصورة موسيقى تصويريَّة ممتازة خدمَت الافتتاحيَّة. في أحد الفصول الدراسيَّة بمدرسةٍ باريسيَّة، نشاهدُ المعلِّم وهو يوبِّخ التلاميذ قائلًا: «يا حسرة على مستقبل فرنسا إن كنتم أنتم ثمرة الجيل القادم!»، ممَّا يعكسُ تعاملًا سلبيًَا مع عقليَّة الطفل، وهو ما كان سببًا في نفورهم من المدرسة في رأي تروفو. نرى أنطوان، الطفل المشاغب، يحاول إثارة الشغب عبر إضحاكِ زملائه أو كتابة اقتباسات بالزاك على الحائط. يُفصَلُ من المدرسة (يمكن اعتبارها الضربة الأولى)، ويناقشُ الأمر مع والديه على طاولة الطعام في شقَّتهما الصغيرة؛ الأم مستهترةٌ ولا تعنيها سوى حالة الفقر، والأب ساذج يتصنَّع الاهتمام، لكنَّه عاجزٌ عن فهم ابنه وزوجته. يعيشُ أنطوان، رغم وجوده بين والديه، يتيمًا في عالمه الخاص. يقرِّرُ الهروب من المنزل، تاركًا رسالة، ويبدأ بمواجهة الواقع المرّ، من مساعدته لسيدةٍ في البحث عن قطتها، إلى سرقته لزجاجة حليبٍ من الشارع.

تثيرُ تصرُّفاته تعاطف والديه ومعلِّمه، الذين يبدأون بإظهار بعض الاهتمام والتشجيع. يُكلَّف أنطوان بكتابةِ موضوعٍ عن أحد أقربائه، ولأنَّه لا يشعر بالانسجامٍ مع عائلته، يختار بالزاك كشخصيَّةٍ يكتبُ عنها، لكن متخفيًا. يكتشف المعلِّم الأمر ويتَّهمه بالسرقة الأدبيَّة ويطرده من الفصل. كلُّ هذه الأفعال تبدو متعمِّدة، كأنَّها صرخة إعلانٍ عن حاجته إلى الحريَّة، والتي بدأت أولى بوادرها بفصلِه عن المدرسة والروتين.

من أكثر المشاهد تأثيرًا هو مشهدُ إحراقِه مدفأة الشقَّة عن غير قصدٍ وتوبيخ والده له، ما جعله يتكتَّم على موضوع فصله خوفًا من إرساله لمدرسةٍ عسكرَّية. تقترحُ الأم الذهاب إلى السينما كنوعٍ من التهدئة، وفعلًا وبعد مشاهدة الفيلم، يتغيَّر حالهم، وكأنَّ تروفو يرى في السينما دواءً للغضب والتشاؤم. في مشهد آخر رمزي، يحاولُ أنطوان سرقة آلة كتابةٍ ثم يُقرِّر إعادتها بعد فشله في بيعها، لكنَّه يُضبط أثناء إرجاعها. إنَّها رمزيَّةٌ تُشير لتقديسِ تروفو للأدب والكتابة وقيمتها.

يرى تروفو أنَّ أنطوان غير مذنب، بل يمارِس ما يراه صحيحًا وفقًا لقيم الاستقلاليَّة والحريَّة، لكن المجتمع المفكَّك الذي يعيش فيه هو من يوجه له الضربات. في مشهدٍ حواريٍّ بينه وبين صديقه، يقارن أنطوان بين العقاب بالإصلاحيَّة والمدرسة البحريَّة، ويقول: «لو كان عقابي الذهاب إلى البحرية، لكنت ذهبت اليوم. لطالما أردت رؤية البحر». إنَّها رمزيَّةٌ قويَّةٌ تشير إلى الجهل الطفولي بماهيَّة العالم، فأنطوان لم يغادر باريس أبدًا، ولم ير البحر. لعل جواب تروفو كان في مشاهد الجري الطويل لأنطوان، بحثًا عن ذاته وعالمه بعيدًا عن سوداويَّة مدينته.

في النهاية يتمكَّن أنطوان من الهرب من الإصلاحية، ويكمل الجري حتى يصل إلى البحر. يراه لأوَّل مرة، ويُختَم الفيلم بمشهد زوم لوجهه وهو ينظر إلى الكاميرا، في لقطةٍ أيقونيَّةٍ كثيرًا ما اقتُبِسَت لاحقًا في السينما.

كما يُرجِّح، فإن الفيلم المستوحى من طفولة تروفو لا يُعدُّ سيرةً ذاتيَّةً حرفيَّة، بل تجسيدًا لما كان يتمنّى أن يفعله طفل تروفو لكنَّه لم يجرؤ عليه. كان أنطوان الحلمَ البديل لتروفو، الذي لم يُسامح والديه أبدًا على إهماله، وشكرَ السينما على احتضانها له. السينما كانت ملاذه من الواقع، وسيلةَ هروبِه من الصدمات والضربات التي تلقَّاها في طفولته.

يُعتبرُ الفيلمُ بصمةً وأيقونةً سينمائيَّة، ليس فقط لبُعده عن الهوليووديَّة، بل لكونه انطلاقة سينما فرانسوا تروفو، وبداية مسيرةٍ حافلةٍ لممثِّلٍ بارعٍ هو جان بيير ليو، الذي جسَّد شخصيَّة أنطوان ببراعة. استمرَّ تروفو وجان بيير بتقديم شخصيَّة أنطوان دوانيل في ثلاثيَّةٍ سينمائيَّةٍ وفيلمٍ قصير، على مدى عشرين عامًا، لنرى أنطوان في مراحلَ مختلفة: واقعًا في الحب، شابًا متهورًا، زوجًا وأبًا، ثم رجلًا عاجزًا عن الحب. لكنَّ البداية كانت من هنا، أربعمائة ضربةٍ على وجه الحياة... وأربعمائة قبلةٍ على وجه السينما.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى